مع عودة التظاهرات الشعبية إلى الساحات في سوريا، يسود الترقب في لبنان حيال تطوراتها، خشية من موجة نزوح ثانية، ترى أوساط مراقبة أنها بدأت تطل برأسها من منطقة الشمال، وتحديداً المناطق الحدودية المتداخلة مع قرى عكار.ظروف غير مواتيةفالأجواء في سوريا، كما يرى المراقبون، شبيهة لتلك التي أطلقت شرارة الأزمة السورية قبل نحو 12 عاماً، فدفعت بالملايين إلى خارج بلادهم، ولا سيما إلى لبنان، الذي تلقف العدد الأكبر من النازحين طيلة هذه السنوات. ويرى هؤلاء أن موجة الهجرة الثانية، تقترن هذه المرة بالانهيار الدراماتيكي للعملة والضيق الاقتصادي المتفاقم في سوريا، والذي يبدو أنه نشّط في الأسابيع الأخيرة حركة التهريب العامة بين البلدين، ولا سيما تهريب الأشخاص.
يتحدث مصدر عسكري مسؤول عن مئات الأشخاص الذين يتم توقيفهم يومياً خلال محاولة عبور المناطق الحدودية المتداخلة في شمال لبنان، والتي تمتد على نحو 14 قرية في منطقة وادي خالد، تراجع فيها دور العائق الذي يشكله النهر الكبير الجنوبي الفاصل بين البلدين، مع تراجع منسوب مياهه صيفاً.
واقع يبدو أنه حصر الجزء الأكبر من عمليات الدخول خلسة في هذه الناحية من لبنان. في وقت تؤكد مصادر عسكرية بأنها لم ترصد حتى الآن محاولات دخول استثنائية بقاعاً عبر المعابر التي شكلت بوابة موجة النزوح الأولى الأكثر نشاطاً، وخصوصاً عبر معابر وادي عنجر الصويري غير الشرعية. أما عند معابر راس بعلبك والهرمل، ولا سيما في عرسال ومشاريع القاع، فالبيئة الأمنية والسياسية وحتى الاجتماعية، على ما يبدو، لم تعد مؤاتية لتقاطر النازحين كما حصل في موجة النزوح الأولى.لا بيئة حاضنةومن هنا ترى المصادر المتابعة أن القراءة المنطقية لواقع الأمور، لا تسمح بالحديث عن موجة نزوح ثانية، حتى بظل أعداد المتقاطرين عبر منطقة وادي خالد في شمال لبنان. برأي هؤلاء أن وصف محاولات تسلل "الذكور" خصوصاً من الطرف السوري بموجة النزوح، يحمل نوعاً من التضخيم. وتستبعد أن تكون الأرضية الاجتماعية والسياسية وحتى الأمنية في لبنان سامحة لهذه الموجة، كما أتاحت بذلك في مرحلة النزوح الأولى.
فمن الناحية الاجتماعية ترى الأوساط أن العائق الأبرز أمام موجة النزوح هذه تكمن في افتقاد النازحين إلى البيئة الحاضنة التي تلقفتهم في موجة النزوح الأولى. تغيب الحماسة في هذه البيئة، وحتى داخل القرى البقاعية السنية التي فتحت ذراعيها أمام الجزء الأكبر من النازحين. وبات هؤلاء يتشاركون مع سائر اللبنانيين النزعة لتحميل ضيوفهم النازحين من بلادهم، جزءاً من مسؤولية الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان. حيث تأثر جزء كبير من أهالي هذه القرى بـ"بروباغندا" السلطة التي سعت لتعليق شماعة إخفاقاتها المتتالية على أكتاف النازحين. وعليه لم يعد هؤلاء يشعرون بالراحة نفسها التي نعموا بها عندما فتحت أمامهم أبواب المدارس والمؤسسات، وتأمنت لهم الأراضي الشاسعة لإقامة تجمعاتهم السكنية التي تحوّلت لاحقاً مخيمات غير شرعية. لا بل لجأت بعض المجتمعات المحلية إلى التضييق الاجتماعي عليهم، من خلال مراقبة حركة تنقلاتهم، واتخاذ قرارات بلدية بحصرها في ساعات النهار. ليترافق ذلك في بعض الأحيان مع أداء عنصري، حاول التمييز بين اللبناني والسوري حتى في الحق بالوصول إلى رغيف الخبز.
وهكذا بات المجتمع اللبناني على موجة متناغمة مع السلطة التي استيقظت لأهمية إمساكها بملف النزوح السوري، بعد سنوات من سياسة الحياد الذي انتهجتها حياله، لترفع صوتها مؤخراً، مطالبة بعودة هؤلاء الآمنة إلى بلادهم. وبصرف النظر عن الخلفيات التي تخفيها السلطة خلف يقظتها المتأخرة حيال مسؤوليتها بالإمساك في هذا الملف، والشكوك التي تبقى حاضرة دائماً، حول إمكانية لجوئها إلى مساومات مالية وسياسية، بمقابل إبقاء النازحين في أماكن إقامتهم، فهي خلقت حالة نفسية، تمنع النازحين من التمتع بحرية مشابهة لتلك التي اختبروها في فترة نزوحهم الأولى. وهذا يمكن أن يشكّل عائقاً أمام تمدد جديد للنازحين السوريين إلى داخل الأراضي اللبنانية. ففي البقاع مثلاً، حيث أكبر تجمعات النازحين حالياً، منعت الإدارة المحلية المتمثلة بمحافظة البقاع، إقامة أي مخيم جديد في أي بلدة بقاعية. لا بل لجأت إلى صرامة أكبر مع صدور القرار الرسمي بدفع النازحين إلى مغادرة طوعية إلى بلادهم. وفي إطار هذه الصرامة امتنعت حتى الآن عن السماح بمكان بديل لنازحين صدر حكم قضائي بإخلائهم من مخيمهم في مدينة زحلة.تشدد أمني حدوديبالمقابل، تبدو عيون الأجهزة الأمنية، ولا سيما أمن الدولة ومخابرات الجيش، مفتوحة على كل التحركات داخل المخيمات القائمة، وبالتالي تقوم هذه الأجهزة بهدم كل خيمة تخلو من سكانها مباشرة بعد إخلائها، كما أنها تمنع تشييد أي خيمة جديدة في أي مخيم. وهذا ما يضيّق من المساحة التي باتت متاحة في حال قررت مجموعات جديدة النزوح إلى لبنان.
وتترافق هذه الممانعة السياسية والاجتماعية لتوسع المخيمات، مع تشدد أمني على المعابر غير الشرعية، وخصوصاً من خلال الإجراءات التي اتخذتها أفواج الحدود الأول في شمال لبنان، الثاني في عرسال ومشاريع القاع والهرمل، والثالث في منطقة وادي عنجر وصولاً إلى منطقة حلوى في راشيا.
منذ مدة تقوم هذه الأفواج بالتشدد حيال عمليات التهريب، وخصوصاً بالنسبة لدخول الأفراد خلسة إلى لبنان. غير أنه إذا كانت الطبيعة الجغرافية تشكل عاملاً أوّل بعرقلة الجهود العسكرية المبذولة من أجل الحد من تسلل الأفراد والعائلات من خلال معابر وادي خالد غير الشرعية في شمال لبنان، تبدو البيئة السياسية العامل المساعد الأول في منطقة الهرمل، حيث تؤكد المصادر العسكرية أن لا تدفق استثنائياً لأفراد أو عائلات سورية في هذه المنطقة، لأن البيئة السياسية هنا تبدو غير مؤاتية ولا تسمح بذلك.إجراءات عسكريةأما في منطقة مشاريع القاع التي تشكّل حالياً بأعداد النازحين المقيمين فيها إمتداداً للقرى الحدودية التي نزحوا منها، وفي عرسال، التي تحتضن العدد الأكبر من النازحين في محافظة بعلبك، فإن الإجراءات العسكرية المتخذة بمحاذاة حدودها المتشابكة مع أراضي سوريا، تشكّل العائق الأكبر أمام تدفق النازحين. ولا سيما بعد أحداث حرب الجرود، التي جعلت الجيش يتمركز في مواقع متقدمة من الحدود، مع تأمين كافة التجهيزات التي تساعده في مهمته، سواء أكانت تلك أبراج مراقبة وغرف تابعة لها ترتبط مباشرة بغرف العمليات في القيادة العسكرية، أو تجهيزات حرارية ترصد حركة إنتقال الأشخاص من مهربين وغير مهربين بشكل دقيق وحتى خلال ساعات الليل وغيرها من التجهيزات.
وأما في المنطقة التي شكّلت معبر النزوح الأول خلال موجته الاولى، أي وادي عنجر – الصويري وصولاً إلى دير العشائر وحلوى، تجتمع العوئق الطبيعية مع الظروف الاجتماعية، لتسهل مهمة فوج الحدود الثالث، الذي نجح مستعيناً بالتجهيزات المتوفرة لديه، بالحد إلى حد بعيد، من ظاهرة التسلل عبر المعابر غير الشرعية في هذه المنطقة. وتؤكد مصادره أن لا حركة استثنائية تؤشر إلى موجة نزوح ثانية عبر هذه المعابر.
هكذا إذاً تبدو الصورة الواقعية تجاه الهواجس التي يعرب عنها البعض من موجة نزوح ثانية، أقلّه حتى الآن، اللهم ما لم تجتمع عدة ظروف قاهرة، لتفتح الساحة اللبنانية أمام الساحة السورية مجدداً.