"استغماية" هي الرواية الفائزة بجائزة "ورشة أصوات وخطوط لرواية الجريمة الأدبية" التي نظمتها "ستوريتل" للكتب الصوتية مؤخراً، بالتعاون مع الدار المصرية اللبنانية. وجاء في حيثيات فوزها إشادة بمهارة كاتبتها كاميليا حسين في الحذف، وقدرتها على قول الكثير من خلال القليل من الكلمات: "وفوق هذا الإيجاز اللغوي هناك إحكام للبُنية، وكاتبة امتلكت كل حريتها في طرح وجهة نظرها في علاقات الأمومة والبنوة التي تحاط في العادة بسياج من القداسة تواضعت عليه مجتمعاتنا".مصطلح "الجريمة الأدبية" كان مثار الكثير من التساؤلات خلال حفلة توقيع ومناقشة الرواية، في مكتبة البلد بوسط القاهرة، وحضرها الروائي عزت القمحاوي والكاتبة منصورة عز الدين. خصوصاً أن الجريمة غير واضحة في العمل القائم على المراوغة والالتباس، حيث تُشككنا الكاتبة في الجميع في لعبة سردية شديدة الإحكام.. فكل الاحتمالات واردة وكلها لها ما يبررها! كاميليا نفسها قالت إن: "الغميضة أو الاستغماية هي اللعبة التي عرفناها صغارًا، حيث يضع أحدهم غمامة على عينيه ويحاول الإمساك بباقي رفاقه، وقد حاولت كسر قواعد هذه اللعبة لتقديم عمل جديد ومختلف، فمارست أنا ككاتبة اللعبة مع أبطال الرواية، في محاولة لوضع الغمامة على أحزان الطفلة اليتيمة التي رحلت أمها وذكرياتها مع أب عذّب الأم، وأوجاع الابنة البارة مع أب أصيب بألزهايمر في أيامه الأخيرة، ومحاولة إنهاء عذاباته وعذاباتها معه". كانت كاميليا قلقة من مصطلح "الجريمة الأدبية" في بداية الورشة، لأنه ليس نوع الكتابة الذي تفضله، لكنها مع استمرار الجلسات فهمته بشكل أوسع ووصلت إلى التناغم الذي يتيح لها أن تكتب بالشكل الذي يرضيها مع الالتزام بمعايير الورشة في الوقت نفسه. قالت إن اللحظة التي قرأت فيها رواية "الغريب"، بترشيح من الكاتبة منصورة عز الدين المشرفة على الورشة، كانت مهمة جداً لأنها كانت المرة الأولى التي تقرأ فيها الرواية وفق هذا المنظور، منظور الجريمة. كانت لحظة الاستنارة التي ضبطت إيقاع العمل وربطت أجزاءه في عقلها، فنسجت خيوط قصتها على ضوئه ووجدت أن الجميع يمكن أن يتورط في جريمة بشكل ما. تصنيفوبحسب الروائية منصورة عز الدين، فإن "رواية الجريمة الأدبية" مصطلح غير منتشر في منطقتنا لكنه موجود في الغرب، وكان جزءاً من أهداف الورشة لفت نظر المشهد الروائي العربي لهذا النوع من الكتابة، ويقصد به الروايات الأدبية التي تظهر فيها جريمة بشكل ما، لكن ليس بالضرورة أن تكون هي الأساس أو محور العمل. ومن خلاله يمكن قراءة روايات مثل "قصة موت معلن" لماركيز المتضمنة على جريمة لكنها ليست الهدف الرئيسي للعمل، ولا همّها الكشف عن قاتل، ورواية "غراميات" لخابيير مارياس الذي اعتبرته النموذج الأبرز لكتّاب يقدمون فكرة "الجريمة الأدبية"، وأيضاً رواية "الغريب" لكامو، فرغم إنها رواية فلسفية إلا إنها تنطوي على جريمة ما، وتدور أجزاء كبيرة منها داخل محكمة.وفق هذا المعنى تصنف منصورة رواية "استغماية" كرواية جريمة أدبية، لكنها تشير أيضاً إلى طريقة كاميليا في الكتابة القائمة على المراوغة، ما يجعل الرواية تتحمل الكثير من التصنيفات، حيث يمكن أن تكون أيضاً عن: الذاكرة، والوحدة، ويمكن أن تكون رواية نفسية، أو حتى عن العنف الأسري "هي رواية متعددة الطبقات وكلها صحيحة، والروايات الجيدة بشكل عام عصية على التصنيف".في سياق التأويلات، ترى منصورة أن كل ناقد وقارئ يستطيع أن يخرج بتأويل مختلف، ولن يكون اعتباطياً، بل سيجد له إشارات داخل العمل. وبشكل شخصين لاحظت هي نفسها في القراءة الأخيرة، أفكاراً جديدة لم تكن قد انتبهت لها خلال القراءات السابقة، منها مثلاً فكرة الأبواب والدور الذي تلعبه داخل العمل، فهي منتشرة على امتداد النص كله وتشير لأبعاد كثيرة منها الحبس والاختناق والابتعاد عن المجتمع. وأيضاً فكرة المرآة ولعبة المراقبة التي تقوم بها البطلة مع جارتها "فهل هي البطلة نفسها، أم أن المرآة تجسيد للحياة المحلوم بها؟ من الأصل ومن الانعكاس؟". ورغم ما قد توحي به هذه الأسئلة من التباس، إلا أن منصورة تراها من نقاط قوة الرواية، إذ لا تتسبب في نفور القارئ، بل تتحدى ذكاءه خصوصاً القارئ المتمرس الذي يبحث عن الاستيعاب والفهم لأنه سيتأكد من أن هذا الغموض ليس مجانياً، بل يهدف للوصول لشيء ما في النهاية.. فمن ضمن التفسيرات التي تطرحها مثلاً أننا أمام بطلة مأزومة، في عمل لا يفرق بين الأبيض والأسود، كل الأشياء فيه متداخلة، "فلو قتلت البطلة والدها فهي ضحيته في الوقت نفسه. كأننا أمام عقل مهلوس، لا يضلل القارئ بقدر ما يراوغ نفسه، وكل هذا مغزول بشكل ممتاز يجعلنا نعيد التفكير في أنفسنا".رهافةالقراءة الأخيرة للرواية ألهمت منصورة فكرة أخرى أيضاً، حول الكتابة الذاتية، تقول: دائماً حين نتحدث عن هذا النوع من الكتابة نرى إن الكاتب أو الكاتبة يحكي عن حياته أو عن نفسه، لكني خلال قراءة "استغماية" أدركت أن هذه الفكرة سطحية جداً، ففي الكثير من الأحيان نقرأ لكاتب منطلقٍ من حياته الذاتية، لكننا نشعر وكأنه لا يرى حياته، غير قادر على استبصار ذاته! أما في هذا العمل، والبطلة فيه مختلفة تماماً عن الكاتبة كما نعرفها، نلاحظ وكأنها متداخلة في أعماق الشخصية، كأنها تكتب من أعماق ذاتها، لكن من دون الاستعراض الذي كثيراً ما يفسد الأعمال الأدبية.. تمرر كاميليا كل الألعاب والمراوغات برهافة حتى إنها تكاد تكون غير ملحوظة وقد لا يلتفت إليها القارئ غير المدقق.
من النقاط البارزة التي أشارت إليها في الراوية أيضاً: التناص الديني الحاضر من السطر الأول، حيث الباب المغلق الذي نسج العنكبوت شباكه عليه، وأيضاً مسألة الإيجاز والحذف، والرواية من وجهة نظرها "مكتوبة بمداد الحذف"، حيث لم تكتب كاميليا ثم تحذف، بل إن الحذف سبق عملية التسجيل على الورق من الأساس، حذف لكل ما يمكن أن يستنتجه القارئ، "هذه الآلية جعلت اللغة مشدودة وموجزة بجمالية لا تعطل الإيقاع". التفاصيل الصغيرةالإحكام أول ما لفت انتباه الروائي عزت القمحاوي في الرواية، ليس في اللغة فحسب، لكن في مجمل البناء الروائي. والإحكام من وجهة نظره لا علاقه له بحجم العمل، فالمهم أن يكون عدد الكلمات على قدر الموضوع المطروح وعلى قدر الزمن الروائي. الملاحظة الثانية كانت الاعتناء بالتفاصيل الصغيرة، كأن تكون البطلة غير قادرة على الأمومة أو ترفضها بشكل ما، فنجد أنها غير قادرة على رعاية النباتات بما في ذلك الصبّار الذي لا يحتاج إلى أي رعاية والمتحمل لأي قسوة "هذا الانسجام مع العالم يؤكد التصاق الكاتبة بموضوعها بشكل كبير...وفي موضوع العلاقات الأسرية المقدّسة، خصوصاً علاقة الابنة بأبيها أو الأم بابنتها، دائماً ما يقال اللائق والشائع لكن كاميليا قالت الجارح، وعدد قليل من الكتّاب يستطيع أن يقول ما نخاف أن نصارح به أنفسنا".الرواية في رأي القمحاوي كانت تحتمل عناوين أخرى، أبرزها: الذنب، والغفران، وهي معان سارية في النص ومترابطة أيضاً مع فكرة "الاستغماية"، فهناك محاولة دائمة للاختفاء من الناس ومن حلقة الذنب الدائرة على طول النص، فإذا حدثت الجريمة فهو ذنب يرد على آخر، وإذا لم تحدث فهو توهم يعني عدم القدرة على الغفران. في النهاية "لا ضحية كاملة ولا جلاد كاملاً". أضاف القمحاوي إن الرواية كان يمكن أن تسمى الجدار أيضاً، ويفسر: الجدار له معان كثيرة جداً، منها الستر، والحبس، وحجب الأسرار، ومنها أيضاً الحدود والفواصل بين البشر والرغبة في عدم التواصل، وحتى المرآة الموجودة داخل النص، شكل آخر من أشكال الجدار، فهي توسع المساحة لكنها لا تزحزح الجدار، توسيع وهمي، إذ يظل الجدار قائماً رغم المرآة. كما إن المرآة لا تمنع الوحدة بل تكررها ولا تنفيها. الرواية في مجملها لعبة مرآة بالنسبة له، إذ تنسحب البطلة من حياتها لحياة مُتمنّاة لامرأة أخرى.