يتوسم اللبنانيون جميعاً بأن ينعموا بصيف واعد في وطن آمن مستقر يعيشون فيه بسلام، بجانب أحبة لهم قدموا من مختلف أصقاع الأرض بعد فترة غياب طالت، وطال انتظارهم لمثل هذا اللقاء الجامع الذي يحمل بين ثناياه كل معاني المحبة والروابط المتجذرة في حنينها لأرض لبنان الوطن. هذا الحلم الواعد وإن تحقق منه جزءاً يسيراً، نغصته حوادث متفرقة في بعض الساحات اللبنانية مما سبب الهلع والهروب من مناطقها.
جنوباً، عند تخوم حدوده مناوشات لا تهدأ. خِيَمٌ تنصب هنا وهناك تبعث برسائل إلى الخارج، مصوّبة نحو العدو الغاشم لمؤازرة شعب فلسطين في ثورته التي لن تهدأ حتى النصر. زوارق إسرائيلية متخطية مياه لبنان الإقليمية ولو لميل واحد، متناسية شاهداً دولياً هو توقيع الترسيم البحري. تحديات تطفئ ألهبتها قوات اليونيفيل المتعددة الجنسيات والمتمركزة جنوبا، كأنه كتب على لبنان التمديد لهذه القوات سنة أخرى خلال الشهر الجاري.
في مطلع هذا العام أطلقت صواريخ من أرض الجنوب باتجاه الأرض المحتلة دون معرفة هوية الفاعلين. تلا ذلك مقتل الجندي الإيرلندي وجرح آخرين من كتيبته في اشتباك مسلح مع عناصر للحزب في العاقبية جنوب لبنان. أصبح لبنان بالمطلق تحت الرعاية الأممية الشاملة في جميع أموره، في ضبط السلام على كافة أراضيه إلى جانب تأمين لقمة العيش اليومية، ناهيك عن الحصول على الاستشفاء عند أبواب المستشفيات وتحصيل العلم في أروقة المدارس والجامعات التي كادت أبوابها أن تغلق هذا العام.
هذا العوز الشديد للهبات من قبل الدول المانحة الإقليمية والعربية، على لسان وزير الاقتصاد، أثار حفيظة دولة الكويت الشقيقة، رغم اعتذار الوزير اللبناني لاحقاً. إهانات العوز تلك والمساعدات المالية تراها في أعين الناس المحتاجين في حين تبقى المؤسسات الحكومية صامتة دون حراك وكأن شيئا لم يكن.
عند منتصف موسم هذا الصيف ظهر فجأة منزلقٌ من نوع آخر يصعب تحليله سياسيا لتشابك أسبابه وضلوع أكثر من جهة في تفجيره داخليا وإقليميا ودوليا. مخيم عين الحلوة، الذي يقع جنوب صيدا هو أكبر مخيم للاجئي فلسطين في لبنان يعود سكانه إلى عام 1948، وما زالت أزمة النزوح إلى المخيم مستمرة وقد اتسم بعد العناصر اللاجئة بطابع الداعشي.
هل يعقل أن يتواجد في لبنان زهاء 22 فصيلاً فلسطينياً ولكل فصيل مرجعيته وكلمته؟ من أبرزها: فتح، حماس، الجهاد الإسلامي، جبهة التحرير، الجبهة الشعبية وعصبة أنصار الله وغيرها من الفصائل، مما يشكل خليطاً غير متجانس، زد على ذلك لجوء كل الفارين والمارقين من العدالة والأمن الداخلي اللبناني الى المخيمات، ما يعيدنا بالذاكرة الى حادثة اغتيال القضاة الأربعة داخل قاعة القضاء اللبناني في صيدا عام 1999، على أيدٍ مجرمة من ساكني المخيم. يبلغ تعداد سكان مخيم عين الحلوة مئة ألف نسمة يقطنون على بقعة صغيرة مكتظة بسكانها على مساحة 2 كيلو مترا مربعا، لذا سمي بعاصمة “الشتات الفلسطيني”.
إن السلاح الفلسطيني في داخل المخيم يجب ان يكون درعَ حماية ضد العدو الصهيوني وليس أداةً للاقتتال الداخلي وجرّ الفتن بين الإخوة والعائلة الفلسطينية الواحدة، تأكيداً لرفض مقولة “بنادق للإيجار”. نعم من المؤكد أن جهات دولية إقليمية ومحلية تريد أن يبقى مخيم عين الحلوة أرضاً خصبةً لتصفية الحسابات وصندوقَ بريد لتبادل الرسائل، كذلك ملاذا تأوي إليه جميع العناصر المأجورة. فجاء اغتيال المسؤول الأمني للمخيم اللواء العمروشي وأربعة من رفاقه في حركة فتح بدم بارد، يقال إنه تم على أيدي مجموعات إسلامية مارقة، ليعبّر عن رسائل واضحة، حيث سلكت أسلحتها عبر منطقة التعمير التحتا من خارج المخيم. هذا الاغتيال السياسي ما هو إلا محاولة للسيطرة على القرار الفلسطيني وأمن المخيم وإدارته، ناهيك عن السيطرة على السلاح وشبه محاولة إلغاء منظمة فتح.
أما زيارة ماجد فرج، رئيس المخابرات الفلسطينية إلى بيروت، بدعوة مسبقة من الدولة اللبنانية فهي لغزٌ آخر، حاول سياسيون تحليله فظل ورقة ترمى عند أعتاب مخيم عين الحلوة.
نتيجة انفجار الوضع في المخيم دعت السفارات العربية رعاياها لمغادرة لبنان فكانت بمثابة جرس إنذار بأخذ الحيطة والحذر، وبأن لبنان والمنطقة بكاملها أصبحا عند منعطف خطر يمرا به، لا سيما أن التطورات في الإقليم لا تنبئ بقدوم رياح التغيير، وذلك بعد مرور فترة خمسة أشهر على اتفاقية بكين منذ توقيعها في 10 آذار هذا العام ولم ينفذ أي من بنودها حتى تاريخه. هذا الأمر انعكس سلبا على الوضع القائم في الداخل اللبناني أهمه ملف الرئاسة.
اما الانزلاق الكبير، بعد ذكرى انفجار مرفأ بيروت بأيام قليلة، فهو حادثة كوع الكحالة التي أعادت إلى الأذهان ذكريات الرابع من آب الأليمة، بصورة مغايرة بدأ عندها الشعب اللبناني يتحسّس ويحلّل أحداثها، خطورتها ونتائجها بعد سقوط قتيلين. بدأت بحادث سير عادي لسيارة شحن تنقل أسلحة غير معروفة المصدر، المحتوى والجهة المستفيدة، مرت داخل الأراضي اللبنانية بدون صفة رسمية. جاء الصوت مدويا على أرض الواقع في الكحالة أن سلاح المقاومة فوق القانون، وكذلك فوق مؤسسات الدولة حين أعلن الحزب أن الشاحنة وما فيها من محتويات تعود ملكيتها له مستندا إلى أن نقل سلاحه مشروع كما جاء في البيانات الوزارية. تناسى الجميع في لبنان والخارج القرارات الأممية والدولية ذات الصلة، وما جاء في اتفاقية الطائف المبرمة تحت رعاية أممية ودولية والموثّقة في الدستور اللبناني والتي تنص حرفياً على أنه على الحزب تسليم سلاحه خلال ستة أشهر وعلى الجيش السوري أن يغادر الأراضي اللبنانية خلال سنتين بعد توقيع الاتفاقية من جميع الأطراف المعنية.
أسدل الستار عن الشاحنة بعد تصريح الحزب، دون اللجوء إلى مجريات التحقيق، فقد أعلن هذا الأخير دون تردد أن الشاحنة مصدرها إيراني جاءت من طهران مرورا بالعراق إلى سوريا ومن ثم إلى لبنان. أكان المحتوى ذخائر أم اسلحة متطورة كما يشاع، أي نوع تحتويه شاحنة من السلاح لن يغيّر في النتيجة. الجهة المستفيدة هي الحزب في أي بقعة جغرافية يراها هو ملائمة. على أثر هذه الحادثة عاد مرة أخرى موضوع سلاح المقاومة الى التداول. لماذا هذا التسلح مستمر داخل كل المناطق اللبنانية دون استثناء؟ والعدو الإسرائيلي لم يغير تموضعه الجغرافي منذ خروجه من لبنان نهائيا عام 2000 وكذلك بعد انتهاء حرب تموز عام 2006 تحت شعار “لو كنت أعلم”.
حقائق وبوادر جديدة ظهرت مؤخرا منذ ترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي رسميا ودوليا، وما نتج من اتفاقيات بشأن استخراج الغاز والنفط في المياه المشتركة جنوبا مع العدو. أضف إلى ذلك قدوم شركات عالمية متخصصة في الكشف والتنقيب لاستخراج كل من الغاز والنفط على الساحل اللبناني، بدءاً بالبلوك رقم تسعة تحت غطاء دولي يتسم بالاستقرار والهدوء الأمني.
بعيدا عن غياب التحقيق الجنائي للحادثة وتكليف من الجيش نبقى بانتظار صدور النتائج. كان لزاماً على الجميع أن تعالج هذه الحادثة وكأنها حادث سير مرور طبيعية وقعت ضمن الأراضي اللبنانية، ليجري التحقيق تباعا دون تدخل من أي جهة سواء الحزب أو عفوية التجمع الشعبي في الكحالة. بسلوك هذا الطريق الصحيح تصون الدولة سيادتها دون إراقة دماء لبنانية من جميع الأطراف ذات الصلة. إن حادثة الكحالة رغم خطورتها بالشكل والمضمون توجب التوجه فوراً إلى معالجة تفلّت السلاح بحكمة وهدوء، مع وقف الشحن الطائفي المباشر ووأد الفتنة بعيدا عن أفكار الكانتونات ومآسي التقسيم، لتجنيب لبنان مرة أخرى إشعال أي من الحروب العبثية، بل الذهاب إلى منطق العقل وإلى احتواء ما سببته فعلا هذه الحادثة.
ان فاجعة كوع الكحالة، وان لملمت آثارها بحكمة قيادة الجيش اللبناني، دون مزيد من الضحايا، اسقطت عربة الدولة بكل أحصنتها في نفس المكان، فأزيح معها ستار صندوق الفرجة في لبنان ليشاهد العالم باسره ما في داخله .
حمى الله لبنان واللبنانيين
الكاتب: المهندس شفيق ملك.