كم كان مخيباً للآمال لو أن وزير الثقافة محمد المرتضى قال في بيانه إنه لم يجد في فيلم باربي ما يستحق المنع.
فقط لو قال إنه شاهد الفيلم بنفسه، مرتدياً ثياباً زهرية، أسوة بمئات ملايين الرجال والنساء حول الكوكب الذين أصابتهم حمى هذا اللون اللطيف وذهبوا في جماعات ليمضوا ساعتين من المرح في مشاهدة فيلم مسلٍ وخفيف يناسب يوم عطلة عائلية. وأنه أقلع عن المشاهدة بعد نصف ساعة من بداية الفيلم، واستنتج، وحده، أن الفيلم التافه لم ينل منه حتى شرف إكماله حتى النهاية.
كان سيخيب الآمال بشدة، لأنه بذلك سينفي صورته التي لبسته ولبسها مذ صار وزيراً لهذه الوزارة التي لا مبرر لوجودها. فهو، في حسابه على تويتر، وفي نشاطاته "الثقافية"، خليط من عدة مكونات ليس منها الثقافة: سياسي طموح للارتقاء في منطقته وبيئته، ومتدين شيعي تقليدي يشارك مقولات موجودة بعشرات الآلاف على الانترنت، وموظف في منصب رسمي يستقبل رسامين متواضعين مجهولين يقدمون له بورتريه لشخصه في لوحة زيتية، وناشط سوشال ميديا ممانع آخر عاشق لإيران والنظام السوري، لا يرتدع، حتى لدواع فنية يفرضها عليه منصبه، عن مشاركة الرسم الشهير لاستقبال قاسم سليماني في العالم الآخر بالعناق من مجموعة من القادة الراحلين منهم الإمام الخميني وعماد مغنية.
الوزير، من البداية، كان شفافاً وصريحاً. لم يعد اللبنانيين بإلمامه بأي شأن ثقافي فعلي. لم يدّعِ أي معرفة بهذا العالم المعقد الذي هو في عمقه نقاش سياسي أكثر اتساعاً بالطبع مما يشغل بال الوزير المرتضى أو راكم إطلاعاً عليه وفهماً له خلال حياته.
كان سيحبطنا حتماً لو أنه في بيانه قال إن لا خطر في الفيلم، لأنه لا يروج لقتل النساء (11 امرأة قتيلة في لبنان منذ بداية 2023 بحسب منظمة كفى). لا خطر فيه لأنه لا يسوّق لاغتصاب الأطفال ولا للوقاحة في الدفاع عن مغتصب أطفال متسلسل وحمايته من العدالة لأنه رجل دين مهم وذي صوت عذب. لا خطر فيه لأنه لا ينفخ في هذا العنف الذي يفيض به البلد، من شاشة التلفزيون إلى كوع الكحالة، وما بينهما. لا خطر فيه لأنه لا يبارك المآسي التي تشهدها النساء في محاكم الطلاق الدينية المتحيزة في أصل بنيانها. لا يروج للعنصرية. كنا سنحزن لو أنه قال إن "الميوعة" هي تحديداً ما يحتاجه اللبنانيون الآن، وهم في حالة الهذيان الجماعية وصلوا إلى مطاردة الكايك في المخابز، وتعليقها على المشانق، أو حرقها في الساحات، لأنهم قبضوا عليها ملوّنة.
لم يحبطنا الوزير المرتضى. لا بل إن بيانه في منع فيلم "باربي" يستحق الوقوف له والتصفيق طويلاً كأنه نال أوسكاراً، لأنه لم يحد في حرف واحد منه عن مهرجان الرداءة القائم في هذه الأيام، يتدافع الجميع فيه بالمناكب على التطرف، لا فرق بين الزعيم الكبير للحزب الأكبر، والبطريرك ورئيس حكومة تصريف الأعمال وشيوخ وكهنة الملل والعشائر كافة، وغالبية اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين.
لا بل إن الوزير مشى الخطوة الإضافية المطلوبة للتميز. لم يحصر سبب منع الفيلم في "الخطر الداهم" للمثلية على "القيم الأخلاقية والإيمانية ومع المبادىء الراسخة في لبنان" (ماذا؟). قرر أن يلعب دور حكيم القبيلة. رأى، في ما رأى، أن فيلم باربي "يُسوّق فكرةً بشعةً مؤدّاها رفض وصاية الأب وتوهين دور الأم وتسخيفه والتشكيك بضرورة الزواج وبناء الأسرة". هذه القراءة المبالغ فيها لنوايا الفيلم، تجعل أي فيلم آخر أميركياً كان أم إيرانياً، أو رواية، أو لوحة، أو مسلسل، أو قصيدة، أو حتى مقال، عرضة للتشريح الفكري الخاص بالمرتضى، وبالتالي المنع حكماً. فلا يعود مسموحاً إلا برنامج "المنار الصغير" وكتاب "التربية الوطنية للناشئة" وكرّاسات مسائل الرياضيات. هذا عدا عن أن "التشكيك بضرورة الزواج وبناء أسرة"، فكرة فعلاً، لكن لا يمكن اختصارها بركاكة نعت مثل "بشعة". وخلافاً لكتاب قيم المرتضى، الزواج وبناء الأسر يسيران كتفاً بكتف مع الطلاق وتفكك الأسر، منذ فترة أطول بعض الشيء من "باربي"، إن في لبنان أو في العالم. ومعهم تسير العزوبية والمثلية، أيضاً في لبنان والعالم. وها هو الكوكب يدور حول نفسه كما عادته القديمة.
لا مشكلة في تعرّض اللبنانيين لفيلم "باربي". الوزير يعلم هذا جيداً. يعلم أيضاً مهارات الفائات العمرية كافة في الوصول إلى أي وكل شيء تريد الوصول إليه، من الأفكار والمفاهيم إلى الأفلام الإباحية إلى الثقافة إلى فيلم "باربي". لكنها موجة وقد وجد الوزير في الفيلم فرصته الذهبية لامتطائها. زعيم الحرب الكبير أدرج حماية أخلاقنا في جدول خطاباته بنداً ثابتاً إلى جانب تدمير الشيطان الأكبر وتحرير فلسطين وانتخاب رئيس جديد. تحدث بجدية عن الشريعة و"إقامة الحد" في بلد رئيسه (المنتظر) ماروني ونصف مواطنيه مسيحيون نظرياً. الهاجس نفسه يقلق الزعامات الدينية والسياسية. يتقاسمون ساعات الليل والنهار في نوبات حراسة لأخلاقنا وقيمنا وعاداتنا. ونحن، الشعب البريء الطيب، خائفون فعلاً من هذا الخطر، وفرحون أيضاً، بأن حفلة التكاذب المتبادل توحدّنا. تطمئننا إلى أننا في أيدٍ أمينة، مع أن للصوت الداخلي اللعين كلاماً آخر، يقول إن المشكلة ليست في قطعة الحلوى، ولا في فيلم عن دمية.
نال الوزير المرتضى حصته من العشر دقائق شهرة. حظه سيء. انحسرت الأضواء عنه مع سقوط قتيلين في سوء تفاهم وطني عند الكوع. لم يعد ما فعله مثيراً للدهشة. فقد أتى بسرعة ما هو أكثر إدهاشاً. وفي الأصل، يبدو مجرد استغراب بيان وزير الثقافة اللبناني جهداً بلا طائل. فالمرتضى ليس حالة فردية. إنه نموذج. المثل والمثال. وقنوات التواصل، أقل التواصل، مع هذا النموذج السائد ليست مستحيلة فحسب، بل معدومة. إلى هذه الدرجة وصلت الهستيريا بلبنان، إلى أنه لم يعد هناك حيل ولا قوة على الذهول ولا على الإحاطة بكل مستجدات عجائبه. البلد بات غرائبياً إلى ذاك الحد الذي لو أن لبنان كان فيلماً لما كان ينبغي أن يرجف جفن المرتضى وهو يكتب فرمان منعه من العرض.