أصدرت دار "نجمة" للنشر الإلكتروني كتابها الثالث، وهو كناية عن ثلاث مسرحيات للشاعر الإسباني الشهير رافائيل ألبرتي: الرجل الخاوي، لاكاياردا، ليلة حرب في متحف البرادو. وجاءت هذه المسرحيات بنفس شعري عال، يستلهم الشاعر من خلاله الموروث الأندلسي خاصة، والإسباني عامة. وتجلت في هذه المسرحيات روح المقاومة ضد ديكتاتورية فرانكو، وأصداء الحرب الأهلية التي تفجرت بين الجنرال فرانكو والثوار، وهي الحرب التي هاجر بسببها الشاعر لينتهي مقيماً في الأرجنتين حتى وفاة الجنرال. ويلمس القارئ أيضاً مسحة سوريالية عالية، تذكّره بمشاهد الملحمة الإسبانية "دون كيخوتة" لسيرفانتس، وسوريالية القرن العشرين التي لطالما تركت أثرها في معظم نتاج الرسامين، والشعراء الإسبان. وتُرجمت تلك المسرحيات عن اللغة الإسبانية الكاتبة العراقية ميادة مصطفى سامح المقيمة في هولندة. وكانت لوحة الغلاف للرسام الفرنسي "كلود مونيه"، وصمم الغلاف الفنان "تيم خليل" المقيم في بلجيكا.وقد كتبت المترجمة ميادة مصطفى مقدمة وافية عن رافائيل ألبرتي، جاء فيها:
يعد الشاعر الأندلسي رافائيل ألبرتي ميريللو(1902 – 1999)، من بين أهم الشخصيات الأدبية لما يسمى بالعصر الفضي للأدب الإسباني، وللحديث عن ألبرتي لا بد من الإشارة إلى السياق التاريخي الذي أدى إلى ظهور جيل الـ"27"، الذي يعتبر ألبرتي من أبرز مجايليه، والجدير بالإشارة هنا، أن هذا الجيل لم يكن مقتصرا على الشعراء فقط بل انضم إليه كثير من الفنانين التشكيليين، وكان من بينهم سلفادور دالي، وفي مجال السينما لويس بونيل. فالتقلبات السياسية (1918-1939) كإعلان الجمهورية وانقلاب الجنرال بريمو دريفيرا ثم عودة حكم الملك الفونسو الثالث عشر، والتغيرات الاجتماعية أحدثت أثراً كبيراً في حياة الفرد الإسباني. لقد شاءت المصادفة أن اجتمع حشد من الكتّاب لإحياء مرور ذكرى مرور 300 سنة على وفاة الكاتب غونغرا، فكان ذلك اللقاء بداية التغيير الفكري العقائدي، لا سيما وقد تزامن مع بدايات العقد العشرين الذي شهد حركات فكرية متنوعة ساهمت إلى حد كبير في تغيير متجهات بوصلة وأهداف الأدب والفن في الحياة، ومما جاء في الكلمة التي ألقاها ألبرتي في تلك المناسبة: إن الاحتفال بذكرى غونغرا جاء في الوقت المناسب، فتجلياته الشعرية عبدت الطريق لدخول تلك المتاهة في غابتنا الشعرية ثم ساعدتنا على درء السوء.في الحقيقة كان أغلب أبناء ذلك الجيل من حملة الشهادات الأكاديمية العالية، وكانت أعمارهم التي تراوحت مواليدها ما بين (1892-1902) متقاربة إلى حد كبير، وقد انخرط أغلبهم للعمل في مجالي الصحافة والتعليم، هذا إلى جانب التزامهم الخط السياسي اليساري التقدمي الذي بدأت بواكير انتشاره تظهر في أوروبا خلال وبعد عام 1929، كما أنهم لم يكونوا على توافق ووئام مع الرؤى والنزعات الثقافية التقليدية سنينئذٍ، وهذا ما دعاهم إلى الوقوف في الضد والتمرّد على كل قيم تلك الثقافية، بما في ذلك الموروث الاجتماعي الإسباني المهيمن على طابع الحياة خلال تلك الفترة.
وتبنى جيل الـ"27" منهجاً جديداً لابتكار أشكال أدبية وتعابير مختلفة تتماشى وسياق التيارات الفكرية التي اتّسمت بها الحياة الثقافية حينذاك كالسوريالية والدادائية، لذلك نجد أن أغلبهم سعى للبحث عن فهم جديد لمحيطه الاجتماعي الذي انغمر بالآيديولوجيات، والحركات السياسية التي انتموا إليها. وحقيقة، نستقرئ من كل ذلك أن الهدف من السعي المحموم لرواد ذلك الجيل، إنما يهدف إلى خلق مفاهيم ومعايير وصيغ فنية وأدبية إبداعية جديدة تتخطى كل الأساليب التقليدية المهيمنة فترتئذ على عموم الحياة الإسبانية، فكتبوا بلا قيود بأسلوب لغوي معاصر حتى أمسى لهم معجمهم الخاص، الأمر الذي ميزهم عن الأجيال الأدبية والفنية التي سبقتهم، ليس في مجال توظيف لغة تعبيرية معاصرة فحسب، بل في توظيف الرموز أو الاستعارة اللغوية التي تتماشى مع التيارات الفنية الجديدة، كالسريالية، والدادائية التي تبناها أغلب ذلك الجيل للترويج عن فكرهم الجديد. أما مضامين كتاباتهم فقد تمحورت حول الهموم الإنسانية عامة كالحب والكون والقدر والموت والمدينة التي تمثل لهم التقدم العمراني والفكري لتلك الحقبة وتحديدا مدينة نيويورك التي اعتبروها نموذجا حيا لذلك التغيير. لكن بالرغم من الانفتاح الفكري لجيل الـ"27" غير أنهم ابتعدوا عن الحديث في بعض الموضوعات الاجتماعية التي كانت تعتبر "تابو" محرماً حقبتئذٍ، ومن بين تلك التابوات على سبيل المثال لا الحصر المثلية الجنسية.ومع أنهم كانوا يتطلعون إلى الحداثة والتجديد، لكنهم في الوقت ذاته قطعاً لم يغضوا الطرف، أو يهملوا الأدب الكلاسيكي، ولهذا تجدهم صبوا اهتمامهم على كتّاب العصر الذهبي مثل غونغرا وكيفيدو ولبوه دفيغا... وآخرين غيرهم، فكانت كتاباتهم مزيجاً بين الموروث والحداثة. لهذا السبب نجد في نصوصهم أشكالاً نموذجية للشعر الكلاسيكي وعناصر مجددة تميزت بها الحركة الأدبية الطلائعية، بمعنى أدق أنهم سعوا لتحقيق توازن بين العواطف الإنسانية والفكر الجديد لإنتاج أدب مفعم بالهموم الانسانية والجمال.لقد أحيا جيل الـ"27" قصائد الرومانس الإسبانية، وترانيم أعياد الميلاد القشتالية المعروفة لدى المتلقين في القرنين الخامس والسادس عشر الموصوفين بالعصر الذهبي، وفضلاً عن ذلك أعار رواد الجيل اهتماماً خاصا للكتّاب البارزين المرموقين، آخذين بعين الاعتبار أن الاستعانة بالكاتب غونغرا على سبيل المثال سيعينهم على تغيير بنى الخطاب الشعري وتجديد نمطه التقليدي، وتبني من بين كتاب القرن التاسع عشر منهج لوبيه دفيغا وكيفيدو للحفاظ على المشاعر الحميمة تجاه تفاصيل الحياة اليومية كالأسرة. ومن بيكر استخدام الرموز والتراكيب اللغوية الرمزية، ومن روبن داريو فهم الواقع وتحويله إلى خيال شعري بل حتى إلى حلم، أما من أنامونو وانطونيو ماتشادو فاستخدام الرمزية في الشعر. لكن بعد اعدام الشاعر كارثيا لوركا برصاص القوميين في العام 1936 تشتت هذا الجيل بسبب الحرب الأهلية الإسبانية.لقد تبوأ ألبرتي مكانة بارزة بين جيل 27 بعد أن حاز جائزة الشعر الوطنية عن ديوانه "بحار في اليابسة"، حيث استمد أجواء قصائده من نشأته الأولى في مدينة قادس وشواطئ قريته وميناء سانتا ماريا القديم. وأطلق عليه النقاد على سبيل المثال بعد أن عاش حياة معقدة وغزيرة التفاصيل ألقاباً كثيرة، لعل من أبرزها: "شاعر المنفى بامتياز"، "الشاعر المجاهد"، "الضمير الدولي للمهمشين"، "صرخة المظلومين" وهذا ما دعا الكثير من المجلات والدوريات الأدبية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي إلى نشر العديد من الدراسات النقدية حول تجربته الشعرية المتفردة. وإضافة إلى ذلك اعتبره الإسبان رمزاً للحرية، ثم لتتناسب كل تلك الألقاب مع الحياة الإسبانية الضاجة بالإنتاج الفكري والمشاكل السياسية والاجتماعية سنينئذٍ. ولربما يحمل كل لقب توصيفاً لإحدى سمات ألبرتي الشخصية لكن تبقى سيرته الذاتية أشد غزارة، وأعماله لا يمكن إيجازها بمجرد فكرة عابرة أو انطباع نقدي عام. فعمله الأول الذي نشره قبل هجرته لأسباب سياسية اعتبره النقاد جزءاً من شعر المنفى لما فيه من انتفاضة وتمرّد على واقع حياتي معيش تقاطع معه منذ طفولته، ولهذا جاءت أغلب مضامين ومحمولات أشعاره ترمز في ثناياه إلى شخصين مهما توازيا أو تباعدا واقتربا، ظلا يمثلان ألبرتي الذات الإنسانية بكل ما تحملان من أبعاد ومعانٍ حياتية. ولعل من أبرز ما يمكن الإشارة إليه هنا هو رؤيته المغايرة للأندلس، فهي بالنسبة إليه على وفق تلك الرؤية أندلس أخرى من حيث جبالها الموحشة وشواطئها الكئيبة، حيث أشار النقاد إلى سمتين أساسيتين تميزان أعماله، وهما الظلمة الداخلية، والمنفى الذاتي حتى قبل رحيله عن إسبانيا. فالظلمة جاءت من النشأة الأولى في المدارس اليسوعية حيث القوانين التربوية الصارمة التي ولدت لديه مشاعر سلبية تجاه بعض القيم والمثل الاخلاقية والنزعات الحياتية، ولهذا نجد في كتاباته المبكرة واللاحقة حضوراً احتجاجياً قوياً بوجه الدين وخطاباته المتعلقة بالإنسان والحياة عموماً. وقد عبر ألبرتي نفسه عن تلك الإشكالية الداخلية في إحدى مقابلاته قائلاً: "إنّ إلقاء نظرة على مدينة قادس يملؤني بالذعر والدهشة على حد سواء".في الحقيقة لم تعد هناك مساحة لممارسة حياته الطبيعية كطفل جراء التحذير من عقاب لا يعرف أسبابه كما تعلم في المدراس اليسوعية، ولذلك ما أن أمسى على عتبة مرحلة شبابه حتى تفاقمت مخاوفه من ذلك العقاب المجهول الذي ظل يراود ذهنيته الفتية، خاصة بعد أن انتقل مع عائلته إلى مدريد التي شكلت شعوره المبكر بأزمة اغترابه الروحي الخانق مع بدايات المرحلة السريالية في كتاباته، وهذا ما يفسر لنا سعيه إلى تحقيق التوازن ما بين الموروث الشعري الإسباني من جهة، والتيارات الشعرية والأدبية الجديدة المعاصرة، فتلاشت الصور القديمة وظهرت مواضيع جديدة أكثر تعلقا بالحاضر الجديد.
إنّ ذلك التحول المفاجئ، وغير المتوقع في خضم ذلك الاحتدام، وتلك الدوامة، حفّزه على انتاج ديوانه الشعري عن الملائكة، ولا غرو في ذلك إذا ما عرفنا أن أغلب رواد جيل الـ"27" قد تبنوا تيار الحداثة والمعاصرة في الأدب الإسباني الجديد.لكن ذاكرة ألبرتي ظلت تحتفظ بتلك الرموز الشعرية لصور البحر الأندلسي ومينائها القديم على مدى سنوات غربته، فهي لم تكن مجرد وصفٍ شاعري، بل إحساس عميق مدفون في ذاته، وهذا كما يبدو قد خلق لديه شعوراً شبه يقين أنه لن يعود إلى مكان صرخته الأولى: مسقط الرأس، هذه الهواجس المتذبذبة ما بين الايقاع الشعري الداخلي والصورة الخارجية اندمجتا سوية فشكلت قصائد ألبرتي التي أمست فيما بعد هويته الشعرية الخاصة به، ولكن بالرغم من أن بداياته كانت في مجال الفن التشكيلي، إلا أنه سرعان ما هجره ليلوذ بعوالم الشعر، وبهذا الخصوص يؤكد ألبرتي نفسه قائلاً: "أصبحت على يقين في كل مرة أن اللوحة لم تعد تكفيني كوسيلة للتعبير، لأنها لم تعد تسعفني لأنني لم أجد وسيلة لأضع كل ما يغلي في مخيلتي داخل إطارها، لقد وجدت نفسي على الورق، حيث من السهل أن أتقلّب على ذوقي، أو لأعبّر عن مشاعر لا تمت بعلاقة للتشكيل الفني". ويقول ألبرتي في لقاء آخر: "حنيني للميناء البحري بدأ يتبلور بشكل آخر، ما لبثت أن أراها خطوطا وألواناً، لكنها تلاشت لما عجزت أن أعبر عنها بالفرشاة، فأخذت عهدا على نفسي أن أنسى رسالتي الأولى وأتفرغ للشعر".خلال إقامته الطويلة في الأرجنتين، وقبلها عاش فترة وجيزة في ايطاليا ثم فرنسا، غربة دامت أربعين عاما حتى عاد إلى إسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانكو وبداية عهد سياسي جديد، استحضرت ذاكرته ثقافة أميركا اللاتينية بل جميع الأماكن التي عاش بها لكنه يعود ليتجاوزها وكأنه لا يقوى على التعايش معها فالمشهد الإسباني بقي متوهجاً في ذاكرته، فأستخدم تعابير تتناقض بعضها مع البعض حتى وصفه الشاعر بابلو نيرودا "وردة حمراء أزهرت بأعجوبة في فصل الشتاء، إنه ندفة ثلج من غونغرا، برعم لكارثيلاسو، عطر حزين لبيكر" وهذا الوصف يوجز لنا أهميته وقدرته الابداعية المتميزة عن بقية جيله.ويعد ديوان ألبرتي "القرنفلة والسيف" الذي ضمَّ أولى قصائده من تجاربه الشعرية التي زاوجت بين ذاكرة مخزونة في أعماق نفسه، وأخرى كئيبة ملطخة بآثار الحرب، ولخَّصها ألبرتي بنفسه قائلاً: "بين الاثنين نحيا، من جهة رائحة الدم المتيبس المقهور، ومن الجهة الأخرى عبق شذى الحدائق، وفجر الصباح، وحياة طرية ومترابطة".وأجدني، هنا، في تقديمي وترجمتي لألبرتي كاتباً مسرحياً متميزاً بين أقرانه من جيل الـ"27"، قد استقرأت أنه ابتكر مسرحاً لا يمت بصلة قريبة أو بعيدة للمسرح المتعارف عليه في عصره، فهو كتب مسرحيات قد لا تصلح للتمثيل على خشبة المسرح أصلاً فترتئذٍ، ذلك لأنه بحث عن صيغ جديدة كما فعل لوركا، لتكون البداية لولادة ما يسمى بمسرح الشارع، أي البحث عن جمهور آخر بعيداً عن جمهور المسارح المتعارف عليه في تلك الحقبة. ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن ألبرتي رسم من خلال قصائده ومسرحياته الطريق لبداية الدعوة إلى ثقافة شعبية جديدة لم يستمدها من الحياة الاجتماعية بل من التراث الشعبي الإسباني. فحياته الصاخبة المتقلبة ولدت عنده فكرة مسرحة قصائده حيث أقام 350 حفلة توزعت ما بين أوروبا وأميركا برفقة جوقة من الممثلين نالت اعجاب الجمهور، وبعدها سعى لأن يجد علاقة بين الموسيقى والرسم فانتقل إلى مسرح الدمى، وكتب "ألوان ملونة" وهي أول مسرحية هزلية للأطفال (1926-1929)، تلك المسرحية التي أشار فيها النقاد لأول مرة إلى لغة ألبرتي المميزة.ثم توالت بعدها مسرحياته حتى جاءت الحرب الأهلية، ليبدأ ألبرتي مسرحه السياسي، فكتب مسرحية "من لحظة لأخرى" عام 1939 أي بعد انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية وعرضت في بوينس آيرس حيث كان يقيم سنواتئذٍ. وتتحدث المسرحية عن شاب ينتمي لعائلة برجوازية ثرية لكنه ينتفض على الظلم الاجتماعي والاستبداد البرجوازي فيترك عائلته وينتمي إلى الحركة العمالية. ومن مسرحياته السياسية المشهورة "آدفسيو" التي كتبها عام 1944 في الأرجنتين وتتناول المسرحية قصة شابة يطلقون عليها في القرية (المغلقة) فلم يكن أحد يراها إلا بصحبة امرأة محجبة خلال قداس الصباح في الكنيسة، ثم توالت مسرحياته التي عرض بعضها في منفاه القسري، فيما لم يستطع عرض مسرحيات أُخر إلا بعد عودته إلى إسبانيا، منها "ليلة حرب في متحف البرادو" و"لاكاياردا" اللتان اخترت ترجمتهما.المسرحية الأولى "الرجل الخاوي"(1931) تعد منعطفا في مسرح ألبرتي حيث جسد فيها بناءَ دراميا من التشكك الفلسفي الذي ساد بين المثقفين الأوروبيين، ابتداء من عدمية نيتشه إلى الأشكال التعبيرية والوجودية والمدراس الفلسفية الأخرى التي ضجت بها الثقافة الأوروبية في بدايات القرن العشرين، والتي أثارت جدلا واسعا بين الأوساط الثقافية الإسبانية لما تحتويه من عمق فلسفي يعبر عن مأساة الضمير، والعبثية الكامنة في حياة الإنسان، والتمرّد والقلق الوجوديين اللذين يأمل بطل المسرحية من خلالهما إيجاد إجابة على جملة من التساؤلات.
حاول ألبرتي أن يشرح حالة الرجل المعاصر من خلال عرض مسرحي استخدم فيه رموزا متعددة استمدها من التراث الديني ومن قصص الحوريات ومن التراث الشعبي الإسباني وأساطير أخرى ليعبر بها عن مخاوف الإنسان المعاصر وما يواجهه من تحديات جراء التغيرات الحضارية التي مست حياته.لقد استخدم ألبرتي التجاوز الأخلاقي الذي يفصحِ عن التمزق الداخلي للإنسان ما بين واقع تقيده سلوكيات وعادات تتناقض وشخصيته الحقيقية، وكما هي عادته أجاد استخدام الرموز فوظف الحواس الخمس باعتبارها شخوصا للمسرحية للتعبير عن وجه آخر للإنسان تجعله يتمزق بين وعيه الداخلي وواقعه الذي يحيا به... لقد عبر ألبرتي عن الحالة الإنسانية من خلال البطل فوضعه في مركز الكون، ليفضح بعدها نشاط الروح التي تحارب نفسها، فهو بلا إرادة تسيره أحاسيسه المتمثلة بحواسه الخمس لتكشف في النهاية عن حقيقته المختبئة في داخله، أي فشله في السيطرة على حواسه.لطالما أقلقت مشكلة الحرية الأخلاقية ألبرتي، وبخاصة في ثلاثينيات القرن الماضي، فقد سعى الشعراء الإسبان في كتابتهم إلى التحرر الاجتماعي، ويرى الكاتب أن الإنسان محكوم عليه بعقوبة لا يمكن تفسيرها، فهو يحيا ويموت في دائرة أخلاقية محكمة، لذلك ينتهي العمل من حيث بدأ: يأتي الإنسان من الظلمة، من العدم، ويعود إليها في النهاية، وخلال هذه الرحلة يعجز عن السيطرة على كل ما حوله وعن ما في داخله بسبب قوى خفية لا يمكن قيادتها، قادرة على دفع سلوكه إلى الهاوية. لقد سعى ألبرتي إلى تأليف عمل مسرحي آيديولوجي اجتماعي متمثلا بالصراع المأساوي بمقاومة الإنسان لوعيه وإعلان عصيانه على ما تم تلقينه من مفاهيم وأعراف ورفض السيطرة الأخلاقية، ولابد من الإشارة إلى أن ألبرتي استخدم الكثير من الأبيات الشعرية التي وردت في ديوانه "عن الملائكة" والذي أيضا يعبر عن تشتت الإنسان في رحلته عبر العالم.المسرحية الثانية "لاكاياردا"، عمل يذكرنا بالأساطير القديمة حينما يحصل لقاء ما بين البشر والآلهة لكن هذه المرة يكون لقاء حقيقيا ما بين ثور وامرأة عاشقة له، حب ولد كراهية ما بين الثور والرجل أدت إلى خصومة، أما الحبيبة التي يعشقها كل الرجال فهي تبحث عن الانتقام للمخلوق الذي أحبته وهو الثور.كتب ألبرتي هذه المسرحية في منفاه الأرجنتيني، عام 1944 تحديدا في مدينة بوينس آيرس التي عاش بها أربعين عاما حتى عاد إلى وطنه إسبانيا. لقد نشأ الكاتب في أجواء أندلسية "حيث يلتقي المحيط الأطلسي مع البحر الأبيض المتوسط" فاستقى من الثقافتين الإغريقية واللاتينية، ولما غادر موطنه لم يكن بمفرده بل رافقه تراثه الإسباني وتحديدا الأندلسي، لأن المنابع الثقافية التي استلهم منها مسرحية لاكاياردا هي من نشأته الاجتماعية الأولى، إضافة لذلك فإن هذه الحكاية لها جذور في الأدب الشعبي الإسباني، لأن مصارعة الثيران هي واحدة من أشهر التقاليد الإسبانية في جميع أنحاء العالم وفي الوقت نفسه الأكثر إثارة للجدل، وهو تقليد حافظ عليه الإسبان حتى وقتنا المعاصر بالرغم من الانتقادات اللاذعة والتنديد بها من قبل جمعيات الرفق بالحيوان. لكن للإسبان وجهة نظر ثانية في الموضوع، حتى أن الكلمة لها موقع في قاموس اللغة الإسبانية، ووردت (Tauromaquia). وللثور في اللغة الإسبانية مترادفات جراء تلك المهنة التي ابتدأت في القرن الثامن عشر عندما تخلى النبلاء عن مصارعة الثيران على ظهور الخيل، أما الثيران التي تقاتل في حلبة المصارعة فهي يجب أن تكون من سلالة معينة ولها خصائص مميزة وسمي (بالثور الشجاع)، على سبيل المثال أن يكون لونه أسود وهناك قياس معين لقرنيه. أما الشخصية الرئيسة في المسرحية فهي المرأة "لاكاياردا" التي أحبت الثور رسبلاندورس، شخصية ابتدعها ألبرتي، لكن الثور عامة ورد في الكثير من الشعر الشعبي الإسباني، بعض تلك الأشعار تحذر الرجل من ذلك المخلوق الذي قام على تربيته بنفسه، وهذه ليست المرة الأولى التي يوظف بها ألبرتي رموزا من الأدب الشعبي في مؤلفاته، وتحديدا مصارعة الثيران، لقد ورد ذكر هذه الحكاية في أول ديوان شعري صدر له في المنفى "ما بين القرنفل والسيف" حيث وردت في هذا المقطع:
من حليبها أرضعته
أنت ثور لكنك ابني
لو ضربتني بقرنك
ستجد أن في أحشائي ثورا آخر.بالرغم من نجاح ألبرتي المسرحي إلا أن هذا العمل لم يمثل على المسرح حتى عام 1992، لربما الظروف المعيشية للكاتب قد عرقلت عرضه، في حين أن العرض شهد حضور العديد من الشخصيات الثقافية والاجتماعية، ووصفه النقاد بأنه "إحدى قمم المسرح الإسباني" وساهمت في عرضه فرقة الباليه المسرحي.المسرحية الثالثة "ليلة حرب في متحف برادو" كتبت عام 1956 في الأرجنتين ومثلت على مسرح الإيطالي "بلي دروما" عام 1973، أما في إسبانيا فقد عرضت لأول مرة عام 1978 أي بعد موت فرانكو. تصور المسرحية واقعاّ معقدًا استلهمه ألبرتي من حدثين مهمين عصفا بإسبانيا، الحدث الأول هو حرب الاستقلال عام 1808 أو ما يطلق عليها اسم انتفاضة عام 1808، أما الحدث الثاني فهو الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1936، وتدور أحداث المسرحية في متحف البرادو في مدريد والذي يعد من أهم المتاحف العالمية للوحات الفنية الأوروبية والأكثر عددا في الزوار. بل هو موسوعة شاملة للفن التشكيلي الأوروبي، ويضم المتحف خمسة آلاف لوحة فنية لأهم الرسامين في العالم إضافة لألفي لوحة طباعية وألف عملة تاريخية وألفي قطعة فنية. فيما تعود أغلب اللوحات إلى عصر النهضة وتتراوح ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، ومن المثير أن نرى أن الكاتب قد عمد إلى عمل مونتاج من لوحات فنية مشهورة في مستويات زمنية مختلفة لكل زمن خطابه الخاص به لكنها في النهاية تجتمع على رأي واحد يتعلق بالإرث الثقافي الإسباني. ويعد عمله محاولة لمقارنة ما بين فترتين تاريخيتين لا تختلفان عن بعضهما، إذ جمع ما بين لوحات غويا التي عبرت عن صمود الشعب الإسباني ولوحات بيكاسو التي خلدت ذكرى مأساة الحرب الأهلية ولوحات أخرى، فكانت اللوحات هي شخوص المسرحية التي عبر من خلالها ألبرتي عن تلك الفاجعتين اللتين حلتا بإسبانيا.
هذا التداخل الزمني يعبر في النهاية عن رفض الدمار الذي حل بإسبانيا و بإرثها الحضاري، ولربما يلاحظ المتلقي أن حبكة المسرحية تتكون من شخصيات غير متجانسة، إلا أنها تعود لتنتظم داخل إطار الفن التشكيلي في خطاب تاريخي وطني والذي لعب فيه ألبرتي دورا أساسيا، فقد كان للرسم تأثير خاص عليه في بدايات تجربته الشعرية. الحدث الأول حرب الاستقلال التي اندلعت بين عامي 1808-1814، حينما غزا نابليون بونابرت إسبانيا بسبب خيانة رئيس الوزراء مانويل كودوي حينما وقع اتفاقية مع فرنسا سمح بموجبها أن تدخل القوات الفرنسية الأراضي الإسبانية لغزو البرتغال بسبب تأييدها لبريطانيا ضد نابليون بونابرت. ووعدت إسبانيا بتقديم الدعم اللوجستي لفرنسا في حربها ضد البرتغال مقابل أن تضم اليها بعض أجزاء من أراضي البرتغال حين انتهاء الحرب، لكن خطط نابليون ذهبت إلى أبعد من ذلك بسبب ضعف شخصية الملك كارلوس. وقد دارت خلف الكواليس شائعات عن علاقة غرامية ما بين رئيس الوزراء والملكة ماريا لويزا، فدخلت قوات أخرى لم تذهب للبرتغال بل انتشرت في أهم المدن الإسبانية الرئيسية بهدف الإطاحة بسلالة آل بوربون ولتحل محلها سلالة نابليون بونابرت وتتويج أخيه خوسيه بونابرت حاكما على إسبانيا. وهكذا نكث نابليون بوعده بينما غض مانويل كودو طرفه عما جرى، لكن الشعب الإسباني ثار ضد الغزو الفرنسي ومرت إسبانيا بفترة عصيبة تعرض فيها متحف البرادو للسرقة والدمار، ولقد قام جوزيف بونابرت بسرقة 200 لوحة فنية صغيرة طالبت بها إسبانيا في ما بعد.أما الحدث الثاني فهو الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت عام 1936 بين الجمهوريين وقوات الجنرال فرانثيسكو فرانكو بعد أن قررت الأحزاب اليسارية تشكيل جبهة الائتلاف الموحد لمواجهة توسع الفرانكوية الفاشية. وكثيرا ما أطلق عليها المؤرخون "بروفة" للحرب العالمية الثانية، حيث انقسم الشعب الإسباني إلى فئتين: الجمهوريون وهم ذوو الميول اليسارية، تحالفت معهم كل القوى النقابية والشيوعية، أما الفئة الثانية فكانت بقيادة الجنرال فرانكو الذي تحالفت معه ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، لكن في النهاية انتصر الجنرال فرانكو وأقام ديكتاتوريته التي دامت حتى وفاته في 20 نوفمبر 1975. وحينذاك تطوع فريق من المهتمين بالإرث الفني الإسباني بإخلاء محتويات المعرض إضافة إلى آثار ومخطوطات أخرى، وتم نقلها إلى سويسرا كيلا تطالها نيران الحرب بسبب قصف الجنرال فرانكو العشوائي لمدينة مدريد. كان رافائيل ألبرتي سكرتيرا لتحالف المثقفين ضد الفاشية فعمل من ضمن فريق المتطوعين حيث نقلت هذه التحف الفنية بالقطار إلى جنيف التي أقامت هناك معرضا زاره أربعة آلاف شخص. وبعد هذه التجربة المريرة كتب ألبرتي مسرحيته "ليلة حرب في متحف البرادو"، كان حينذاك قد غادر إسبانيا بعد سيطرة نظام فرانكو وفتكه بكل معارضيه.