منذ أن خيّر وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو، ومسؤولون أميركيون آخرون، اللبنانيين بين نزع سلاح المقاومة، أو إعادة لبنان إلى العصر الحجري، كانت النتيجة منتظرة وهي استحالة الطلب الأول لأسباب عدة واهمها تأييد غالبية لبنانية للمقاومة، بينما كان بديهياً إعادته إلى ما أسماه “العصر الحجري”، أي تدميره، وهو أمر معروف لأكثر من سبب، أولها الاحترافية الأميركية واستراتجيتها التي قامت على تدمير الدول، وثانيها، أن تركيبة لبنان واقعة تحت القبضة الأميركية، عسكرياً، وسياسياً، واقتصادياً ومالياً، وربما كان لبنان من أكثر الدول خضوعاً للأميركي، فنظامه يقوم في الأساس على “النظام البنكي” المرتبط بنظام سويفت الأميركي، ومن أسهل ما يمكن شفط أموال البنوك، وتحويل البلد الى مجموعة من الشحاذين.. وربما هذا ما حدث.
لذلك، كان تدمير البلد خياراً وقراراً سهل التطبيق، ومن يعرف ألف باء السياسة الراهنة على مختلف المستويات المحلية والدولية، يدرك أن لبنان دخل في أزمة تدميره بعد أسابيع قليلة من كلام بومبيو، أي أوائل خريف 2019 بما أسميَ بتحركات الشارع.
كثيرون حذّروا من لم يصدّق كلام بومبيو، من صحّته، ويوم استقالت حكومة الرئيس سعد الحريري في ذروة نشاط تحرك الشارع، كان الأمر قد تثبّت، ولم يعد الرجل قادراً على المضيّ بتحمّل عبء الانهيار الكبير الذي ينتظره.
الرئيس نجيب ميقاتي، المُطِلّ على الشؤون العالمية، والمُلِمّ بالشأن اللبناني، كان مدرِكاً حجم التحدي، والمصاعب التي تنتظر لبنان بما فيه من ملفات أبردُها نارٌ كاوية، منها ملف النازحين السوريين، ومشكلة ودائع الناس في المصارف، والانهيار المعيشي العام للغالبية الساحقة من اللبنانيين، وإشكالية العلاقة بين الغرب ككل، والمقاومة، وإلى ملفات معقّدة أخرى، منها موضوع المثُلية وما تستهدفه من قيم الشرق، لكنّه قَبِلَ أن يُمسك جمرة الحكم بيده، متحملاً وزر الدمار المقبل.
وصل البلد إلى ما توقعه الرئيس ميقاتي، من أزمات على مختلف الصعد، وانتهت ولاية رئيس الجمهورية، وفشل القيّمون على الانتخاب بتحقيق هذه الخطوة، ودخل لبنان انسداداً سياسياً وقانونياً ودستورياً غير مسبوق.
وفي ظل هذا الانسداد السياسي المتسبب بالتموضع الوقح للطوائف، والخطاب الحاد المرافق له، ومن ضمنه بروز طرح الفيدرالية القديم الجديد، وسواها، يتجاوز الرئيس ميقاتي كل ذلك، ويقبل بحمل كرة النار، ويضع خطة عمل من خلال جمع أكبر عدد من الوزراء كخطوة جريئة لمواجهة هذه الأزمات.
خطوة مواجهة أكبر وأخطر الملفات كان يفترض أن توحّد اللبنانيين في سبيل مواجهتها، لكن الرئيس ميقاتي، وبحكومة تصريف أعمال لا تملك كل الصلاحيات، واجه نكداً سياسياً مدعوماً بنزعاتٍ، منها الشخصي المحلي، ومنها الطائفي، وبدلاً من إدراك مختلف القوى لخطورة الأزمة، وضرورة تكاتف الجهود، وتوحيد القوى، تمت مواجهة الرئيس ميقاتي بالاعتراض بفعل خلفيات سياسية، ومكاسب فئوية ضيقة، لكنّ ميقاتي، بصلابته، وثباته، والتزامه الشأن الوطني، قاوم، وثابر، ونجح في تأمين انتظام الحياة العامة، وجزءاً كبيراً من المؤسسات، وآخرها حاكمية مصرف لبنان التي نجح نجاحاً باهراً في حلّها، رغم وفرة العصي التي وضعت في دواليبها.
كذلك، كان متوقعاً بعد انتهاء ولاية حاكم المصرف المركزي ارتفاعٌ في سعر صرف الدولار، واستكمال الانهيار العام، وقد واكب ذلك حملة كبيرة من التهويل، والحرب النفسية، ولم يكن ينقصها إلّا دخول أحداث مخيم عين الحلوة، وما أعقبها من نتائج أليمة، على ميدان لبنان السياسي المأزوم، وقد بذل الرئيس ميقاتي جهداً كبيراً لوقف إطلاق النار، وتثبيته من خلال التواصل اليومي مع الأجهزة اللبنانية، والفصائل الفلسطينية.
صحيح لم تعتد الحياة السياسية هذا النمط من الجهد والعمل اليومي لحكومة تصريف أعمال حيث تحول الوزراء إلى ما يشبه لجنة العمل اليومي لتسيير شؤون الناس، بحكومة محدودة الصلاحيات، رغم ذلك لم تخرق الدستور، وظلّت تعمل للصالح العام، وأما المزايدات فلم يكن لها من قيمة أمام مصلحة البلد الذي يعاني شحا على مستوى المسؤولية الوطنية، حيث نرى بعض القوى كالتيار الوطني الحر، يعمل ليلا نهارا لتعطيل عمل الحكومة باحترافية نكد سياسي بزعامة الوزير جبران باسيل الذي لم يترك وسيلة تعطيل إلا مارسها منذ لحظة مغادرة الجنرال عون القصر الجمهوري مختاراً السلبية والتعطيل لمصالح وطموحات فردية.
إن الواقع الأليم، وظروف البلاد، والانهيارات المتتالية، والحالة المعيشية الصعبة، كانت تتطلب تضامناً وزارياً وسياسياً لتجاوز المحنة، لكن تلك القوى، والتي شاركت بالسلطة، وبالتحاصص، والفساد تريد استكمال تدمير المؤسسات فقط من أجل استعادة نفوذها.
إن حفلة المزيدات، والنكد السياسي، لم تعد تجدي نفعاً، بينما رجالات الدولة كالرئيس نجيب ميقاتي يقف على أرضٍ صلبة، ملتزماً دوره الوطني، ومتحملّاً المسؤوليات كافةً رغم كلّ الظروف الصعبة.
جميل رعد.. كاتب سياسي