أتساءل كمواطن لبناني يعيش الأزمة لحظة بلحظة، ويرزح تحت وطأة مآسي البلد كبقية المواطنين، متألماً لما يجري من حولنا محلياً وإقليمياً.. هل تمرّ ذكرى هذا الانفجار كمثيلاتها من الذكريات الأليمة التي طبعت تاريخ لبنان الحديث؟ كأنها سحابةَ صيفٍ في شهر آب!..
في هذا السياق أناشد بقوة كل الشعب اللبناني المناضل المغترب والمقيم، وما تبقّى من أركان الدولة المخلصين، أن يُعادَ فتح ملف هذه القضية الجنائية من الدرجة الأولى في توصيفها القانوني.
المطلوب فوراً رعايةً غير مسبوقة لقاضي التحقيق طارق بيطار، بحماية حقيقية مدعومة بغطاء سياسي ووطني جامع من قبل الحكومة والشعب، ليتمكن من خلالها المباشرة بفتح ملف هذه القضية، بعد أن يتحرر من دعاوى الرد، ويُزال عنه الحصار، فيباشر فوراً لملمة ما تبقى من التحقيقات لإصدار القرار الظني، علماً أن المحقق القضائي بيطار توصل إلى أكثر من 80% من الاستنابات القانونية.
ما يجري على الساحة اللبنانية اليوم، ينبئ بأنَّ ضحايا 4 آب قد انضموا إلى اللائحة الطويلة للشهداء اللذين اُغتيلوا على مسارحَ وبتواريخ مختلفة في لبنان، والوسيلة واحدة وهي الاغتيال بالمتفجرات.
لم تزل هذه الجرائم مجهولة القاتل والأسباب الموجبة، باستثناء شهيد الوطن رفيق الحريري الذي اغتيل عام 2005، لكن العدالة ما زالت منقوصة حتى الآن. أيعقل اليوم من موقع لبنان السياسي، أن يكون مجلس قضائه الأعلى بجميع أعضائه وغرفه القضائية معطلا؟، لقد دخلنا اليوم في الذكرى الثالثة لتفجير مرفأ بيروت، وما زلنا نشاهد عن بعد ما يجري دون حراك، والجناة مختبئون وراء قوانين وإجراءات واهية لجأ إليها بعض القضاة، بمساعدة السياسيين والمسؤولين الفاسدين لإفساح الحرية لهم دون حسيب أو رقيب.
بالمقارنة، منذ فترة وجيزة، شهد العالم بأسره دونالد ترامب، رئيس أكبر دولة في العالم، يمْثُل أمام القضاء الأمريكي دون أن يتجرَّأ أحدً أن يتذرّع بحصانة للرئيس. تبين نتيجة مجريات التحقيق في قضية تفجير مرفأ بيروت، أنَّ هناك حقائق وقرائن تمّ الوقوف عندها بوضوح أبرزها:
– سفينة روسوس صنعت عام 1986 في اليابان، وقدرتها الوصول إلى محطتها المزعومة موزامبيق مشكوك بها. أبحرت السفينة من جورجيا في البحر الأسود في شهر أيلول عام 2003، محملة بشحنة من نيترات الأمونيوم بحمولة تزن 2750 طناً، متجهة إلى موزامبيق تحت علم مولدوفا، علماً أن موزامبيق، في ذاك الوقت، نفت أي علم لها بسفينة الموت وكذلك مالكي السفينة الذين تخلوا عنها وعن شحنتها.
– في مسارها توقفت في تركيا لأسباب تعود إلى تغيير طاقم السفينة، ولدى وصولها إلى اليونان توقفت لعدة أيام لأسباب غير مؤكدة. اُذن للسفينة بعدها بالإبحار بعد أن نُزع عنها نظام التموضع العالمي (GPS)، نظام معمول به منذ عام 1973 ويعمل بشكل كامل منذ عام 1995، يحدد مسار السفن في البحار كلها، تحت مراقبة دقيقة دون انقطاع، وفقاً لمعايير السلام والأمن الوقائي الدولي وكذلك لأسباب سياسية دولية أخرى. أي سفينة تلك تبحر عبر البحار دون هوية وبوصلة تحدد مسارها الحقيقي لوجهة الميناء الذي سترسو إليه؟؟
– في مكان ما في المتوسط أُعطي للسفينة روسوس الأمر بالاتجاه إلى مرفأ بيروت ضالتها المنشودة منذ البداية وكأننا في لبنان محطة رعاية تستقبل السفن التائهة في البحر الأبيض المتوسط.
– في مرفأ بيروت بدأت الملحمة التي تفوق حبكتها الإلياذة بأشواط، ذات الفصول المتشعبة المستمرة حتى تاريخ اليوم. مُنعت السفينة آنذاك من الإبحار خارج ميناء بيروت بحجج مالية واهية قامت بإصدارها الجمارك اللبنانية لدفع رسوم مالية واستيفائها من مالكي السفينة حسب الأنظمة المرعية.
وحين تعثّر قبطان السفينة بالدفع، تم حجز السفينة بشحنتها باسم القضاء اللبناني. جرى كل ذلك خلال فترة طويلة قاربت السنة في خلالها أطلق سراح كل من بحارتها وقبطانها على مراحل زمنية مختلفة وأصبحت السفينة محررة من جميع القيود. أفرغت محتويات السفينة وخزنت شحنتها كاملة في العنبر رقم 12 بأمر قضائي وتحت حراسة مشددة تحت مسمّى مواد خطرة قابلة للانفجار.
– في هذا السياق، هل تستحق حفنة من الدولارات كرسوم إجرائية جمركية، أن تُحتجز سفينة روسوس بكامل شحنتها، قبطانها وبحارتها غصباً بأمر قضائي في خلال مدة قاربت السنة، ناهيك عمّا سببته من اضرار جانبية مع الدول التي لها علاقة مباشرة بالسفينة؟ ألم يكن من الأجدى أن ترسوَ السفينة لعدة أيام ريثما يتم إصلاح أو تحميل ما جاءت لأجله، إلى آخره من الأسباب ثم ترحل عنا سفينة الموت بعيداً ونتجنب هذه الكارثة.
– من رئيس الهرم في الدولة إلى أصغر موظف في السلطة التنفيذية وكل الأجهزة التي كانت تعمل في المرفأ، كانوا جميعاً على علم بشحنة نترات الأمونيوم وإن كان بأوقات زمنية مختلفة. إن حمولة 2750 طناً من هذه المتفجرات قد تم تخزينها في عنبر رقم 12 غير المؤهل للتخزين فنياً.
– حتى الآن، لم تعرف أسباب ترك هذه الشحنة الضخمة من المواد التي صنفت بالخطرة والقابلة للانفجار حسب القضاء والقانون، مخزنةً في مرفأ حيوي مثل مرفأ بيروت لست سنوات. في ظل غياب معايير ومتطلبات الأمان الخاصة بالتخزين لمواد من هذا النوع في وسط العاصمة.
– من المؤكد خلال سنوات التخزين أنه تمً فعلاً استعمال كمية كبيرة من هذه المواد وترحيلها من العنبر رقم 12 خارج المرفأ إلى جهة غير محددة، علماً أن المرفأ بكافة ساحاته ومخازنه يقع تحت الحراسة المشددة من قبل السلطة التنفيذية مجتمعة شاملة الأحزاب السياسية ذات الصلة. من المؤكد أيضاً أن الكمية إن لم يستعمل معظمها خلال فترة التخزين لدمرت العاصمة بيروت بكاملها. لا شك أن مقاضاة شركة سافارو وكلاء شحنة الباخرة في القضاء البريطاني هو مفتاح لسير معطيات جديدة تفيد القضية. أما عما يدور عن محاكاة الانفجار والعودة إلى قضية التلحيم والإهمال، فإن هذه الفرضية قد حسمت منذ زمن طويل.
مما تقدم هل يحتاج لبنان فعلاً إلى الذهاب إلى لجنة تقصي حقائق دولية؟ أم أن يستمر القضاء ببذل مزيد من الجهد وينهي ما بدأه. هذا الأمر يعزز من لحمة وتضامن الشعب اللبناني ويبعد عنه براثن التشتت وعدم الانجرار وراء القول المزعوم، اللجوء إلى وصاية الخارج. علينا جميعاً السعي لتحصين القضاء وليس لتحصين المتهمين، كذلك الوقوف أمام كل من يحاول اغتصاب سلطة القضاء الحر في لبنان. ألم نكتفِ بما حصل في السابق، حين لبنان ما كان سوى ورقة تتجاذبها القوى الإقليمية والدولية.
الساحة اللبنانية ما هي إلا شاهد حي على عصر الوصاية في لبنان، وما زلنا ننتظر تقريراً فنياً من هنا وهناك أو صوراً من الأقمار الصناعية، علماً أن سماء الوطن، بساحله، بسهوله وجباله، يدور في مداره ما يقارب العشرة أقمار صناعية.
عبثاً هو الانتظار، لأن المجتمع الدولي بأسره مأزومٌ جداً، ولديه تقاطعاته ومصالحه الخاصة في دول الإقليم. و لولا ذلك، فلماذا عدم تسليم أي من المستندات التي يحتاجها لبنان في قضية انفجار المرفأ؟ علينا الاستنتاج المنطقي وهو المضي في التحقيق القضائي وإنهاء قضية الرابع من آب داخل القضاء اللبناني الحر النزيه.
عاش لبنان حراً سيداً مستقلاً
الكاتب: المهندس شفيق ملِك