ميشال ن. أبو نجم -
لتجربة العلاقة بين التيار الوطني الحر وحزب الله مفارقات كثيرة، وتداعيات أكبر. قوتان مختلفتان في الإيديولوجيا والإنتماء الطائفي وشكل التنظيم الحزبي، تعيدان صياغة علاقات اجتماعية وسياسية جديدة عابرة لخطوط التماس، كما ترسمان اصطفافات مستجدة غير معهودة على الإنقسام اللبناني القائم على تحالفات وجبهات طائفية من لون واحد. هذا أهم ما في التجربة على الرغم من كل الإختلافات والمعضلات المعروفة والتي أوصلت إلى الشرخ الأخير، والمفصلي.
فقد كان الأسهل على التيار الوطني الحر أن يعتمد خطاباً مواجهاً لحزب الله للأسباب التقليدية المختلفة، ويبقى على شعبيته الهائلة بعد العام 2005، لولا استباق العماد ميشال عون مجموعة من التحولات الكبرى في المشرق وخاصة في مرحلة عراق ما بعد صدام حسين المتناحر مذهبياً وعرقياً حتى العظم.
لذلك صورة العودة إلى الحوار، كائناً ما كانت أشكاله ودوافعه، طبيعية جداً. الحرص على العلاقة ليست متصلة بمصالح سياسية تقليدية بل بقدر ما تمثل هاتين القوتين السياسيتين وانعكاسات علاقاتهما على تجربة التنوع الطائفي اللبناني، وصورة لبنان المستقبلي في شكل عام.
والعودة عنوانها رئاسة الجمهورية، وكيفية إنتاجها، وتجاوز أزمة فرض سليمان فرنجية، لكن الرئاسة وإن كانت البند السياسي الوحيد، فهي تخفي في طياتها، لا بل تعكس "سلةً" من الهواجس العميقة، وتتحكم بالتالي لا بمقاربة الملف الرئاسي فقط، بل بحضور ما يمثل كل من "التيار" و"الحزب"، لا بل بالوجود في حدّ ذاته.
فالتيار الوطني الحر "استشرس" في الرفض القاطع لسليمان فرنجية وأعلنَ النفير العام بعد الإجتماع المفصلي بين الوزير جبران باسيل والسيد حسن نصر الله. المفاجأة لدى قيادة حزب الله لا بل الإنزعاج من رد الفعل السريع، طبيعي لدى الطرف المقابل. في ذهن جبران باسيل كما في أذهان قاعدة "التيار الوطني" ووجدانها الجماعي، إعادة سريعة لمشهدٍ أسود ساد بعد التسعينات. هذا المشهد لم يقتصر على ضرب المسيحيين فحسب وشق تغييرات ديموغرافية من خلال التلاعب بالدستور والتجنيس، بل على التأسيس لجريمة العصر المالية والإقتصادية وأودت بشعب لبنان إلى الهاوية. وطبيعي جداً، أن رفض "التيار" ورد فعله العنيف والحازم، يلامس ما لدى الوجدان المسيحي اللبناني العام تجاه ما يمثله فرنجية من ماضٍ وحاضر، كما أن الخطاب العام لقيادات حزب الله أذكى هذه الهواجس من استعادة منطق الفرض، ووراثة أساليب المنظومة السورية التي تحكمت بلبنان على مدى خمسة عشر عاماً. هنا، كان "التقاطع" مع القوات اللبنانية والكتائب، طبيعياً لا بل متوقعاً لمن يدرك خلفيات التاريخ وديناميكية تفكير الطوائف.
حزب الله عاد من جهته إلى الحوار بعد تيقنه من وجود أزمة فعلية وخطرة في علاقته مع البيئة المسيحية، لكن هذه العودة أتت أيضاً محكومة بالهواجس، ماضياً ومستقبلاً. هناك نقاش عميق ومطول ساد دوائر حزب الله وبيئته غير الحزبية، حول العلاقة مع المسيحيين، خلُصَ إلى عبثية التصلب ومحاولة حشرهم في الزاوية مجدداً. راقب "الحزب" وأجهزته المزاج المسيحي العام جيداً. الإتجاه الغالب هو نحو التشدد وطرح خيارات الفدرالية بديلاً من هذه العلاقة "الإستغلالية" مالياً واقتصادياً، و"التهميشية" سياسياً، مع القوى الممثلة للشارع الإسلامي. وهذا ما زاد من الأسئلة القلقة، خاصةً وأن "تقاطع" التيار الوطني الحر مع "القوات" و"الكتائب"، لم ينزل برداً وسلاماً على "الحزب" لا بل زاد من هذا القلق.
من هنا شهد اللبنانيون تحولاً ولو بطيئاً. الخطابات المكتوبة لقياديي حزب الله أبلغ دليل على الحرص الشديد على عدم التفلت الكلامي أو إساءة التأويل والتفسير. لكن المفارقة، أنالإنتباه إلى الهواجس المسيحية مرتبط في شكل بنيوي بهواجس تاريخية لدى البيئة الشيعية المتخوفة من العزل، بعد تقاطع المكونات اللبنانية الأخرى في مواجهتها. السؤال هنا ليس مرتبطاً بمدى تضخيم هذه الهواجس لحسابات سياسية، المهم أنها حقيقية وموجودة في شكلٍ أو بآخر، ومؤثرة على أداء العقل السياسي لحزب الله. والتسوية السعودية – الإيرانية، وبغض النظر عن الكلام الرسمي، زادت من الأزمة في النقاش الداخلي لحزب الله. فإذا كانت التسوية هذه تمثل انتصاراً لنا ولجهدنا الكبير، فكيف تتحول مأزقاً في لبنان إذا كنا لا نستطيع صرفها و"تقريشها" في التوازنات الداخلية.
بهذه الحال، يصبح الحوار المستعاد بين التيار الوطني الحر وحزب الله، متجاوزاً في الجوهر أبعاد الرئاسة وحتى بناء الدولة والخلاف الأزلي بين "التيار" ونبيه بري، على أهمية كل هذه العناوين. إنه حوار هواجس الماضي، وصورة لبنان المستقبلي، ولو كان بأدوات الحاضر السياسي.