ميشال ن. أبو نجم -
يستند خطاب الطوائف اللبنانية وقواها وأحزابها على تعزيز الفروقات والهواجس والمخاوف، إضافةً إلى رواياتها الخاصة للنزاعات اللبنانية. في وجهها الآخر، تشابهاتٌ وتقاطعات لا بل "حسَد" في أحيان كثيرة تجاه عوامل القوة والعسكرة والتضخّم الذاتي. العِبرة ليست في التوصيف بل بتكرار رهانات ثبُتَ فشلها طالما أنها تقدّم حضورها السلطة على مشروع وطني جامع، أساسه الدولة "المستحيلة في الوطن الصعب"، على ما ذكرَ يوماً كتاب لطانيوس دعيبس في حوارات بين "كريمين"، الكتائبي بقرادوني والشيوعي مروة.
لا تريد أو تتهيّب مشروعاً جامعاً، لكنه مكلفٌ، للدولة، فتعود إلى "الرحم" الهانئ والسهل. طالما أننا نريد "جماعتنا" لا الدولة، فلمَ نتعبُ أنفسنا بمشاريعَ غامضةٍ. نسيطرُ على الدولة أو نقتنص منها حصةً، لا بل ننهبُها ونجوّفها، لا فرق، طالما أن هذه الدولة، لا تخصنا! وطالما أيضاً أنَّ "الآخرين" فعلوا أو يفعلون الشيء نفسه.
وهذا الرهان للطوائف اللبنانية، تكرَّر ويُستعاد في محطات البحث في النظام وفق تغير التوازنات، وغالباً بعد صراعات ومنعطفات يُستقوى فيها بالخارج، لكن المفارقة أنه لم يكن يوماً ذات نتيجة تذكر. النتائج المحققة أو المبتغاة تعود أيضاً لترتبط في شكل وثيق بمدى اقتراب الحضور من حَملِه مشاريعَ "دولتية" فعلية.
بعد الطائف، تحققت مطالب المسلمين، في المناصفة والمشاركة و"الإصلاح". وهي مطالب رفعها الإسلام السياسي و"الحركة الوطنية" في مقابل طروحات "الجبهة اللبنانية" والمسيحية السياسية، ب"السيادة"، فبات الإشتباك اللبناني يدور، نظرياً، حول هذين المطلبين، حتى عتبة الإنقلاب الذي قاده ميشال عون وحوّل مقولات الحرب "الأهلية" إلى صراع بين لبنان والنظام السوري آنذاك، محاولاً الجمع بين "السيادة" و"الإصلاح" على قاعدة عدم معارضته للمشاركة الإسلامية ضمن تصحيح النظام.
لكن هذه المشاركة الإسلامية التي أتت بعد تدخل الدبابة السورية بغطاء سعودي – أميركي، والتي شعر المسلمون بنتيجتها، وخاصة السنّة والدروز، أنهم باتوا أكثر حضوراً في النظام، اقتنصتها زعامات سياسية واستنفدتها لحساب مشاريع السطو على الدولة والإستدانة المالية وفتح الباب أمام المجالس والإدارات الرديفة، والتأسيس للنهج المالي والإقتصادي الذي أوصل لبنان إلى الإنهيار. لم يتحول توسيع الحصة الطائفية إلى مكسب وطني أو حتى لأبناء هذه الطوائف، طالما أنه ابتعد عن منطق الدولة، وإن كان الشعور الوجداني المسلم العام، مختلفاً.
الإتجاه المعاكس يستدعي النقاش هو الآخر. بعد العام 2005 حصلت ردّة عنيفة تمثلت بإصرار مسيحي على العودة إلى النظام بعد أعوام التهميش والإستئثار ونفي زعاماتهم وسجنها. تطلب الحضور و"العودة" أعواماً طويلةً وتحالفات بدت مستغربة، ورفعاً لخطاب مسيحي لدى التيار الوطني الحر الذي وللمفارقة، لم يكن يحمل هذا الإتجاه قبل ال2005. إنه النظام القاسي، إذاً، والمقفل، لا بل هي إدارة القوى الخارجة من الحرب ومنطقها في السيطرة والنهب والتجويف. قاتلَ "التيار" في معارك قوانين الإنتخابات والرئيس المستند إلى تمثيل مسيحي قوي والحضور في الإدارة. لكن وعلى أهمية "العودة" وعدم استثناء أي مجموعة لبنانية من الحضور في النظام والدولة، بقي هذا الإتجاه ناقصاً، أو "موقوفاً" عن الوصول إلى نهاياته من قبل منظومة التسعينات. ذلك أنه من الظلم بمكان التغاضي عن المعارك "الدولتية" التي خاضها "التيار" من إقرار الموازنات إلى فتح النوافذ في النظام السياسي والمواجهات القاسية مع المنظومة حتى لو انتهت إلى إقرارٍ بهدنات أحياناً كثيرة. ولا يمكن التجاهل في التقييم المعارك في الأعوام الأخيرة لولاية الرئيس عون في التدقيق الجنائي والمواجهة القاسية مع المنظومة المصرفية – السياسية العميقة الجذور.
على أن المعنى المسيحي للمشاركة، بقي، وكما في المشاعر التي ضربت المذاهب والطوائف اللبنانية على اختلافها، ضرورياً لكن غير كافٍ necessaire mais pas suffisant. والإكتفاء هنا، لم يكن قريباً من "الإستفادة" الوطنية اللبنانية إلا بقدر ما حمل معه مشاريع للدولة، وبطبيعة الحال قادرة على الجمع أو التلاقي مع شرائح وطنية مختلفة.
ومع وصول النظام السياسي إلى أقصى درجات تعطله وشلله، مع تكرار الشغور، والتلويح بالمشاريع المتناقضة من المثالثة وتوسيع الحصة الشيعية إلى الفدرالية كردٍ انفعالي أحياناً كثيرة، يقف الشيعة على مفترقٍ مماثل. لا بل يمكن القول على منحدرٍ آخر للهاوية اللبنانية.
فبعد التقزيم على المستوى الإقليمي، والتحجيم في الميدان السوري – وهما ظاهرتان طبيعيتان لمسار القوى المقاتلة في مشاريع أكبر منها – تنظر البيئة الشيعية اللبنانية إلى النظام اللبناني وكأنه الأرض الموعودة التي لا بد من توسيع الحصة فيها. جوهر النقاش الشيعي اليوم يدور حول أهمية، وكيفية صرف كل الجهود و"التضحيات" وعوامل القوة، في النظام، في موازاة بروز مشاعر مبكرة للإحباط في ظل "العودة" إلى الداخل اللبناني -وهي عودة مطلوبة بكل الأحوال، لا بل مشتهاة و"متخيّلة" لدى شرائح عدة ومنهم التيار الوطني الحر الذي يرى "حزب الله" "الذي في خاطره"، شريكاً له في معارك الإصلاح وبناء الدولة...
المفارقة، أنَّ ما ستجنيه البيئة الشيعية، ليس مختلفاً عن ذلك الذي شعرّ به المسلمون بعد الطائف، وخاصة السُنّة والدروز، والمسيحيون بعد عودتهم التدريجية منذ العام 2005 إلى النظام الطائفي، "الضيّق" مهما اتسع... تسود مشاعر الإرتياح وترجمة عوامل القوة، إلى حين التنبه أن كل ذلك لا يمكن أن يحل إشكاليات تفسير الدستور، ومعالجة الدين العام، وهيكلة المصارف، واستعادة الودائع، لا بل كل ما تشمله كلمة دولة من تنمية وبيئة وقضاء حقيقي (لا ذلك الذي يستنكر التدخل الأجنبي في التدقيق الجنائي!) ودستور وصحة الخ...
إنها لعنة "كعكة" النظام. كلما أكلت منها الطوائف اكتشفت أنها تقضم عظاماً. وإلى حين حمل المشروع الدولتي، ستبقى هذه الطاحونة تدور بدوائرها على الطوائف واللبنانيين.
وكم كان أفضل، بدل التلهي بلعبة "المثالثة" والتلويح بها، لو حصل نقاش حول أفكار آخرى. لعل من بينها البحث في مهل التكليف، والتأليف، وتحديد آليات تفسير الدستور، واللامركزية، ومجلس الشيوخ والنقاش في الدولة المدنية...
أقله يرتقي اللبنانيون بنقاشهم إلى مصاف المجتمعات المتحضرة، بالمواطنية...