لستُ على ما يرام.
كتبتُ قصة قصيرة جداً عن رجل شنق نفسه، لكن الإلهام لم يسعفني أن أجد لها العنوان المناسب.
أطرقتُ في الأرض ملياً ثم رحتُ أذرع الغرفة جيئة وذهاباً كحيوان في قفص.
يقال إن العنوان غالباً ما يرشح من سقف الذهن أثناء فعل الكتابة. كلا، هذا الكلام يجافيه الصواب. يقال أيضاً إن العنوان قد يلمع كزيح برق في سماء ذهن الكاتب من حيث لا يدري... أيضاً، هذا الكلام يجافيه الصواب.
لقد كتبتُ قصة صغيرة ولم أجد لها عنواناً.
لا أخفي أن آلاف العناوين تناهتْ إليّ من كل جهات النص، لكن النص لفظ بإشمئزاز كل تلك العناوين.
قرأتُ مرة في كتاب تراثي قديم لا أذكر اسمه أن العنوان كالثعلب الحذِر، ومرة قرأتُ أنه كحرباء تجيد التلوّن بما يخاتل إلقاء القبض.
حسناً، لقد أجهدتُ نفسي كثيراً، فلأترك القصة بلا عنوان!!
لكن كلا، العنوان هو القبضة التي تحوي كلمات النص، بل تراه في الكثير من الأحيان بمثابة الحبل الذي يشدّ حزمة الكلمات إلى بعضها البعض. تحايلتُ على نفسي كثيراً وتحايلتُ أيضاً على السطور والحروف والكلمات علّها تومض بعنوان ما.
إنه نص حميم جداً مؤلّف من رَجُل وحبل ولسان متدلّ من الفم. هو نص رشيق حيوي كشاب في مقتبل العمر يضاجع فتاة في مثل سنّه... لكني لم أجد العنوان المناسب لهذا النص لسوء الحظ.
تريّثتُ قليلاً وكلّمتُ نفسي:
"إبتعد عن النص قليلاً، خُذ منه بعض مسافة وستجد عندها أن العنوان سيندلق فجأة كنعمة من رب كريم".
لم يحصل هذا الأمر.
توارى الربّ خلف حجب النص اللعين، بل تراه قد تواطأ مع نقاط كلمات النص وقَبَعَ خلف مخبأ دفين كنقطة في كلمة سر.
لا حول لي ولا قوة في حضرة رب متوار ونص مفعم بكل ضروب الزوغان.
جرّبتُ حظي حيال هذا العنوان المفقود عبر افتعال اللامبالاة.
أتى الليل، ثم أتى ليل آخر، فإذا بي مغبة أرق وعين تحدّق في الجدار وأخرى في السقف البعيد.
لستُ على ما يرام.
شددتُ رأسي من الخلف براحتَيّ، ورحت أكرر على نفسي حكايا أبي وأمي وأجدادي الأوّلين، علّي أجد في متونهم ما ينبئ بعنوان ما.
أيضاً وأيضاً، عنوان قصتي خارج طائلة حكايا أهلي وجرف كلماتهم التي هي مثل بحر متلاطم الأمواج.
تفرّستُ في النص ملياً أرقب عيونه البعيدة الغور.
عيون النص خبيثة جداً، تتدارى عن نظراتي بكل ضروب الحيلة واللؤم. بادلتُ النص خبثه وفي بالي أني صرت قاب قوسين من لقط العنوان.
نعم، لقد لجأتُ إلى حيلة تقوم على التربّص بالنص ثم ترك لساني يلهج بكل كلمة من كلماته لمدة أسبوع.
كدت أنجح... كدت أعضّ العنوان، كدت ألحسه!!
... لكن العنوان كل مرة كان يفرّ عبر فلتات اللسان.
لقد بُحّ بي الصوت وها أنذا أرى النص يبادلني نظرة هزء واستهتار وقد بسط نفسه أمامي ممعناً في المراوغة والإستخفاف.
كدت أقع في حفرة الإستسلام لمّا فجأة همس إليّ صوت مبحوح:
"تأبّط نصّك وخض غمار الشارع الآن. إرمِ بالنص في وجوه المارة من الأطفال والرجال والنساء. وزّعْ كلماته في كل دروب المدينة واجعله تحت النعال على الأرصفة وفي الطرق".
خفت من هذا الصوت المبحوح وصرفتُ النظر عن إغواء همسه الضاج، بل ترى إليّ وقد واريته في جهة أخرى من دماغي متعدد الطيّات.
تعالى الصوت ثم تعالى حتى تحوّل داخل رأسي إلى ضجيج: "وزّعْ نصك في أرجاء المدينة على غفلة من العيون واجعل شتاته في كل ناحية وصوب".
استسلمتُ للجّ الصوت وخرجتُ من بيتي وحيداً إلا من ثقل النص.
الشارع يمور بكمّ هائل من النعال وإطارات السيارات. تهيّبتُ فَلْش نصّي هنا، تهيّبتُ أيضاً فلشه هناك وتهيّبتُ الإبقاء عليه في كفّي الذي قد تفصّد بالعرق.
تسللتُ بين الناس كظلّ يحمل نصاً صغيراً بلا عنوان. أرشدني تيه خطواتي إلى أزقة لم أخضها من قبل.
كنت غريباً عن المدينة غربة نصّي عن عنوانه.
بعض ناس الشارع وروّاد مقاهيه كانوا يشخصون فيّ وقد رسم الإستغراب وسوء الظن ملامحهم.
فررتُ من نظرات الناس ومن تلك الملامح الفجة التي تشبه علامات الإستفهام. وجدتُ نفسي وحيداً في زقاق ضيّق، والنص بعد في كفّي المفصّد بالعرق، والدنيا قد صارت ليلاً.
قررت المبيت في هذا الزقاق المعتم إلى أن تواتيني الجرأة لدلق نصّي فوق الوجوه وتجاعيد القسمات. مكثت أياماً في هذا المكان الصغير بلا ماء ولا طعام، وكنت فقط محل انتظار تلك اللحظة التي سترسم خريطة نصّي إلى ما يلائمه من عنوان.
كنت مستلقياً على ظهري أتأمل نجوم الليل البهيم لمّا تناهى إلى مسامعي صوت مشنقة.
يمّمتُ وجهي إلى مصدر الصوت، فإذا برجل يبلغ من العمر قصصاً وقد تدلى عبر حبل ملتف حول عنقه باتقان.
دنوتُ من الرجل بحذر...
... لم يكن قد مات.
أشار عليّ أن أقترب منه قليلاً عبر رجفة كانت تأتي بها شفته السفلى.
كان يخوض غمار اللحظات الأخيرة من الحياة لمّا نطق بكلمة واحدة ومات... العنوان!!!
تركته نهب ريح خفيف وعتمة فضفاضة، ولّيته الظهر وعدت أدراجي إلى بيتي مطمئن البال.
حسناً، يبدو أن للمدينة شروطها الخاصة كي تمدّنا بالعنوان المناسب لِما نخطّ من كلمات.
بسطتُّ النص أمامي بهدوء ثم زوّدته بالعنوان لأشرع بعدها في كتابة نص آخر ومشنقة جديدة.
(من مجموعة: شارع في عدّة اتجاهات).