مضت على خير. تبيّن أن الآنسة، التي لكل منّا صورة لها في ذهنه، تضحك للأسمراني الرقيق، وليس لصاحبه. شكراً للسماء. لو تبين في ختام ذاك الترقب المرير لجمهوره في تلك الليلة، وللأجيال العربية من بعده، لو تبين أنها كانت معجبة بصديقه، لما كان المسرح لينجو، ولا المدينة، ولا الوطن العربي. على الرغم من أن محمد عبد الوهاب هو الملحن، وحليم، بجلالة رومانسيته، هو مطرب السهرة.
إلى هذا الحد أحب الناس عبد الحليم حافظ، إلى ذاك التماهي معه بطلاً، حتى في أغنية - قصة قصيرة، انفجروا معها يهتفون ويصفرون ويصفقون لا طرباً، بل لأن الحكاية وصلت إلى خاتمة سعيدة تليق بنجمهم الطري العود دوماً، المائل كغصن مكسور على الشجن والضعف والإنطواء على ذاته. من المفترض أن النهاية متوقعة من بداية الأغنية، (من ذا الذي سيخذل عبد الحليم مرة ثانية بعد خطيئة زبيدة ثروت والوسادة الخالية؟) لكنهم، مع ذلك، فرحوا لبطلهم الأسمر النحيل، ذي الصوت العذب والعينين الحزينتين، العليل دوماً، الذي، حين غادر، صار الأسطورة التي صارها. انتصروا له، كما دوماً، في كل سيرته، كما ينتصرون لحبيبة شطر حبيبها الهارب قلبها نصفين.
أتمّ حليم خلود نجمه برحيله المبكر الذي يكسر القلب، حتى لمن وعوا على موته بعد سنوات بعيدة، ثم بعد عقود. معبود الجماهير، من البداية وإلى ما بعد النهاية بكثير.. إلى ما لا نعلم متى. صعد إلى السماء، وصار، حرفياً نجماً، باعتراف الفلك.
في مقابلة غرائبية تعود إلى أواخر الثمانينات، راح المذيع (الراحل منذ فترة الآن) مفيد فوزي يحقق مع النجم الصاعد عمرو دياب. وبينما ننتظر في أي لحظة أن يوجه فوزي صفعة تطرح الشاب العشريني أرضاً، عملاً بأساليب الشرطة العربية في سحب الاعترافات من الموقوف، سأله أخيراً عن عبد الحليم حافظ. كان عمرو دياب، الذي يواجه تشكيك فوزي بأزيائه وجيله وموسيقاه وكلمات أغانيه ودوام بقائه أصلاً، مستعداً للسؤال. قال ما معناه إن حليم "فوق"، في مكان أعلى من الجميع، أحياء أو موتى، مخضرمين أو جدداً. وضع عمرو الصاعد الأعظم عبد الحليم في المرتبة التي يستحقها، وحيداً، وهذا دقيق. أعلى من كل من سبقه ومن سيلحقه. في خانة عبد الحليم حافظة فقط. أبعد أمنيات عمرو حينها كانت أن يجد مساحته الخاصة به، لا أن ينافس حليم، ولا أن يقلده، ولا أن يكمل ما بدأه الراحل الخرافي.
لا أحد، حقاً، يقدر على منافسة حليم، حتى بعد عقود، بعدها عقود، على موته. عبد الحليم حافظ توليفة كاملة لن تحدث مرة أخرى. لكن، ومع كثير من التحليل المبالغ فيه هنا، يمكن الزعم إنه، وحتى ظهور عمرو دياب، كان المغنون، مصريين ولبنانيين حصراً، كلما غنوا رأوا شبحه، أو رأينا شبحه الرقيق بقربهم ليضعهم في مكانهم العادي، الكبير، لكن ليس االاستثنائي، العظيم.. صحيح. الاسم الذي يرد إلى الذهن هنا هو هاني شاكر. المغني ذو الصوت الشجي والذائقة الفنية المرهفة الذي ظُلم باقتران اسمه بحليم، وظلم نفسه بأن اعتقد أنه سيصير يوماً مثله، أو حتى أقل قليلاً. شاكر الفنان الذي سيكون لعبد الحليم حافظ ما كانته ماجدة الرومي لفيروز. ثانياً. هذا عنيف بقسوته، لكنه رأي وقابل للنقاش. مع كل اللبرلة في المكتوب، ثمة ثانٍ لا أحد، ولا شيء يغفر له. إما أن يكون موهوباً تلك الموهبة الربانية، الخيالية، أو لا. لا حل وسطاً عند الآلهات المؤمنات الصادقات. آمين.
الوحيد الذي كانت لديه من الجرأة، وربما من الطيش يومها، ليقول ما قاله لنقيب الشرطة الراحل مفيد فوزي، كان عمرو دياب. كان شجاعاً بما يكفي حينها ليعزل عبد الحليم. حولّه إلى أيقونة لا تُمسّ حتى بالطموح والخيال الجارف. مع حليم عزل تلك الأسماء القليلة في التلحين التي لن يصادف مغنٍ مهما كان سعيد الحظ وجودها حوله كلها في وقت واحد. بليغ حمدي طبعاً. عمرو دياب كان أوضح وأقسى فنان صاعد في إعلان نهاية زمن برمته، وبداية زمن جديد. وحتى يأتي من يقول لمفيد فوزي آخر إن عمرو دياب هذا أيقونة لا تُمس، يبقى الهضبة وحده، من دون منافسة، حليم زمانه الممتد منذ أكثر ثلاثين سنة.
قبل 46 سنة رحل عبد الحليم. عشاقه ما زالوا يتجددون جيلا بعد جيل، كطائفة مجنونة تمتد من عربي إلى عربية إلى عشرات الملايين من العرب، من الذين عاصروه في مراهقتهم قبل عقود، إلى المراهقين الحاليين. مراهقو بدايات عمرو دياب في نهاية الثمانينات باتوا الآن في منتصف عمرهم، وأزمتهم، وما فوق. ومع أنه بات فوق الستين، هو ما زال نموذجاً لهم وللأجيال اللاحقة، ومنهم، لأسف منتصف العمر، أولادهم الذين دخلوا المراهقة، هذا العالم الغامض السوداوي، الخلاب، الذي ليس من حظنا إلا أن نعيشه مرة واحدة في مرورنا اليتيم، ولا شك أنه كان مروراً إن ليس رائعاً، فهو لن يتكرر مرة ثانية.
الهضبة لا يبدو متصابياً، بالرغم من شعره الملون وعضلاته المفتولة وأغنياته الراقصة، وكلماتها الخفيفة. قرر أن يبقى، كما أغنياته، شاباً إلى الأبد. ثمة صيف دائم ، وبحر، وسيارة تمضي سعيدة بناسها ومرحهم، كلما غنى عمرو دياب. حسناً، قد يكون الهضبة هو بالتحديد الأمل الكاذب لمن يعانون أزمة منتصف العمر. بالرغم من ذلك، فهو يكسر الصورة النمطية لما "ينبغي" ممن في عمره، أو جمهوره الوفي منذ بداياته، المراهق قبل أكثر من ثلاثين عاماً، أن يسمع أو يرتدي أو يعامل جسده وشكله كما يعامل الهضبة وجوده. عمرو دياب قدوة للخفة الضرورية في مواجهة التقدم المأساوي الذي لا مفر منه في العمر. وعمرو دياب، بغض النظر عن ذكائه الحاد وموهبته التي أثبتت نفسها بنفسها، رجل يبدو مجتهداً اجتهاد التلامذة الذين تطرحهم الحمى ثلاثة أيام حين تهبط أرقامهم عن العلامة الكاملة، ولا يتواضعون في الانتشاء حين يتفوقون. لم يهتم يوماً بالمقابلات والحوارات، ولا استغل حياته الشخصية للنفخ في شخصيته العامة، ولا نراه إلا في صورته التامة، مبتسماً، راقصاً، يغني، يكتسب المزيد من الصحة الوافرة وألوان الطبيعة. منتجٌ فائق الجودة يشبه الساعات السويسرية. وبينما يتهاوون من حوله، نجوماً ونجمات، يظل عمرو دياب كما هو، مايكل جوردان زمانه، ليونيل ميسي زمانه، عبد الحليم زمانه، أو، أيضاً، عمرو دياب زمانه.وهو زمان عمرو دياب إلى أن يقضي الزمن والموسيقى أمراً كان مفعولا. إلى أن يقضى مقتضاه. وإلى ذاك الحين، هو زمان الهضبة.. ونحن نعيشه.