عندما وضع المشرّع بنود الدستور اللبناني إعتمد بالدرجة الأولى على وطنية القيادات السياسية وحسن نواياهم، فلم يحدد المهل لانتخاب رئيس للجمهورية أو للدعوة الى الاستشارات النيابية لتكليف رئيس للحكومة، أو لتشكيل الحكومة.
ولم يكن المشرّع يُدرك أو يُفكر بأنه سيأتي يوم على لبنان يضع فيه رجالات السياسة مصالحهم الشخصية ومكاسبهم فوق المصلحة الوطنية العليا ومصلحة الشعب اللبناني.
كما لم يدخل المشرّع في تفاصيل صلاحيات حكومة تصريف الأعمال انطلاقا من قناعته بأن مثل هذه الحكومات لا يجب أن تصرّف الأعمال لأكثر من شهر كحدّ أقصى لأن المسؤولية الوطنية تحتم على الكتل النيابية المسارعة في إنتخاب رئيس الجمهورية، لا أن تتنافس هذه الكتل على التعطيل بما يؤدي الى إطالة أمد الشغور لوقت طويل ينعكس سلبا على مؤسسات وأجهزة وإدارات الدولة وصولا الى مواجهتها للفراغ كما هو حاصل اليوم في حاكمية المصرف المركزي الذي تنتهي ولاية حاكمه رياض سلامة نهاية الشهر الحالي في ظل رفض نواب الحاكم تحمل المسؤولية والتهديد بالاستقالة بحسب البيان الذي اصدروه أمس.
لا شك في أن الدستور والقوانين والصلاحيات وكذلك السياسة وضعت كلها من أجل خدمة الناس، وبالتالي فإن ما تقوم به حكومة تصريف الأعمال هو في صلب الدستور الذي يتصدى لكل المعترضين الذين لا يمكن لهم أن يمارسوا تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية من دون التعايش او المساكنة مع الشغور والمبادرة لتلبية مطالب وحاجات المواطنين ومعالجة مشاكلهم كما تفعل اليوم حكومة تصريف الأعمال التي يصر رئيسها نجيب ميقاتي على القيام بواجباته وفقا لمقتضيات الدستور.
واللافت أن القوى المسيحية تمارس الشيء ونقيضه، فهي تتباكى على موقع رئاسة الجمهورية وتعطل انتخاب الرئيس وترفض الحوار للوصول الى قواسم مشتركة تفضي الى إتمام الاستحقاق.
كما تطالب هذه القوى الحكومة بتحمل مسؤولياتها والقيام بواجباتها وتنتقدها اذا لم تلب بعض مطالبها، ثم تعتبرها غير ميثاقية وغير دستورية وغير شرعية، ما يشير الى إنعدام المسؤولية الوطنية التي تترجم بالتعاطي مع الحكومة على القطعة او بحسب المصالح الامر الذي يتنافى مع واقع حال البلد المنهار الذي يحتاج الى إعلان حالة طوارئ تجتمع في إطارها الحكومة بشكل يومي وبمشاركة كل الوزراء من أجل حل الأزمات التي تتوالد يوما بعد يوم.
هذا الواقع، دفع الرئيس نجيب ميقاتي في اليومين الماضيين الى وضع النقاط على الحروف، والى وضع القوى السياسية أمام مسؤولياتها وخصوصا المعترضين على عمل الحكومة، مؤكدا انها مستمرة بتحمل مسؤولياتها وفقا لمقتضيات الدستور والصلاحيات الممنوحة لها، ومن لا يعجبه ذلك فليسارع الى انتخاب رئيس للجمهورية لسحب هذه الصلاحيات من الحكومة.
لا شك في أن ميقاتي يحاكي بكلامه تطلعات اللبنانيين الذين في ظل الانهيار لم يعد اهتمامهم ينصب على من يربح او من يخسر في السياسة، بقدر إهتمامهم بمعالجة مشاكلهم وايجاد الحلول لأزماتهم، وبالتالي من المرجح ان تشهد الأيام المقبلة تفعيلا لعمل الحكومة لتأمين استمرارية المرفق العام، ومنع تمدد الشغور الى ادارات الدولة، لأن مصلحة البلاد والعباد أهم بكثير من التجاذبات ومحاولات تسجيل النقاط، ولعل ما قاله الرئيس نبيه بري عن أن “الضرورات تبيح المحظورات” يصب حتما في هذا الاتجاه!..