"أنا عارف أنه مش كل المصريات راقصات، ومصر مش شارع الهرم بس"، هكذا قالها سائق التاكسي ببساطة بينما كنا يوصلنا إلى مطار عمّان بالأردن للعودة إلى القاهرة. لم يترك لنا فرصة للرد، وفاجأنا أنا وصديقات ثلاث مصريات، كنا نحكي ونمرح ونمزح طوال الطريق من الفندق إلى مطار الملكة علياء بعد رحلة قصيرة مثمرة وإيجابية في عمّان.لم نعرف أن شيئاً سينغص الرحلة في أمتارها الأخير. السائق الذي أراد أن يبدو لبقاً معنا، قال إنه يحب مصر والمصريين، وهذه جملة اعتدنا سماعها من معظم العرب الذين نلتقيهم من جنسيات مختلفة، خصوصاً من هم في أواسط عمرهم، لأنهم تربوا على السينما والدراما المصرية منذ صغرهم مع رحلة الفن المصرية التي جابت الدول العربية في مجال الغناء، مع أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وغيرهما، حتى التلذذ بأصوات شيوخ المقرئين للقرآن الكريم مثل عبد الباسط عبد الصمد والمنشاوي ومحمد رفعت.لكن إلى جانب تلك الأشياء الإيجابية كلها، فاجأنا السائق أن زميلاً له قال إن كل المصريات راقصات، ودلّل على ذلك بما يشاهده من أفلام يظهر في غالبيتها الرقص الشرقي، والسُمعة التي يشتهر بها شارع الهرم في القاهرة، والذي تكثر فيه البارات والكازينوهات الليلية. فيتكوّن الانطباع لدى من يتعرف على مصر فقط من خلال شاشة صغيرة، أنها كلها شارع الهرم، وأن المصريات جميعهن راقصات بما يشمله المصطلح من معنى فساد الأخلاق، بخلاف الرقص نفسه.لا وقت للرد على السائق. كان يطفئ محرك السيارة وأنا أقول له: "وما عيب الرقص، ما عيب أن تشاهد سامية جمال وتحية كاريوكا ونعيمة عاكف وغيرهن، ألا يعني الرقص السعادة والمرح؟". كنت أود أن أضيف بأن الرقص أسمى من أن يرتبط بفساد الأخلاق أو تنميط ووصم المصريات به، فلا أحد يرقص حزيناً أو مجبراً، باستثناء محمد منير حينما غنى "أرقص غصب عني أرقص".في كل المناسبات السعيدة التي حضرتها، منذ كنت طفلة يتفتح وعيها على الدنيا، كان الجميع يرقص. الأطفال، الكبار، حتى النساء العجائز حول نار المدفأة، لهن حركاتهن المألوفة التي لا تتطلب مجهوداً كبيراص، فقط يحركن أيديهن مع ميل خفيف للصدر. الكل يريد المشاركة في الفرحة ويعتبر الرقص دلالة على السعاد والحب لأصحاب الحدث السعيد.لم تكن تلك المرة الأولى التي أسمع فيها تلك الجملة النمطية عن المصريات. فقبل 7 سنوات كانت المرة الأولى التي أسمعها من زميل عربي. لم تكن علاقتنا متعمقة بقدر كبير، لكنه فاجأني بسؤاله: "بتعرفي ترقصي؟ ممكن ترقصيلي؟".. هكذا ببساطة كأنه يلقي التحية مصافحاً. تعجبت، فغرت فاهي عن آخره وسألته عما يقصد، فأجاب: "نحن نعرف أن كل المصريات يرقصن، تعرفي شارع الهرم؟ زرتيه؟". لم يفاجئني ذكره لشارع الهرم، لكن ما فاجأني أنه شاب ويمتلك كل أدوات التكنولوجيا ليتواصل ويشاهد ويقرأ عن مصر والمصريات تحديداً، وعن حياتهن الطبيعية التي لا تختلف عن أي امرأة عربية أخرى، لكنه يقع فريسة التنميط الأعمى، ويختزلنا كنساء في "الرقّاصات"، ويختزل مصر في شارع الهرم، ويبدو أن كثيراً من رفاقه وزملائه يفكرون بالطريقة نفسها، وربما لذلك لا يفضل بعضهم الزواج من مصريات."كان نفسك تبقى إيه وإنت صغير؟"، ذلك السؤال الذي تمت مشاركته عشرات المرات خلال الأسابيع الماضية، وقرأت معظم إجابات صديقاتي عليه. والطريف أن غالبيتنا كنساء، كنا نتمنى أن نكون راقصات حينما نكبر، وللأسف لم يتحقق الحلم.أذكر أني في صغري، كنت ألفّ خصري بأغطية الرأس الملونة لأمي، الأصفر والأحمر والأبيض والأسود والأزرق وغيرها، وأشكل ما يشبه بدلة الرقص من الأسفل، ثم أتمايل يميناً ويساراً عندما تبدأ سامية جمال أو سهير زكي أو نجوى فؤاد في الرقص، أرقص معهن وأقلد حركاتهن، ولم يخبرني أحد وقتها أن الرقص عيب.وعندما كبرت حضرت معظم أفراح أقاربي، وكنت أتطوع لرقص، أو يُطلب مني بشكل مباشر من العائلة، فأرقص كيفما تسمح حركات جسدي وثنايا الفستان، ولم يخبرني أحد وقتها أن الرقص عيب. بل إن العيب في الفرح، والموسيقى دائرةن ألا يرقص أحد، وتصبح النكتة وقتها: "إنتوا في ميتم يا جماعة ولا إيه؟ قوموا ارقصوا!".تتحدر عائلة أمي من قرية على أطراف مدينة كفر الزيات، لم ولن يسمع عنها أحد، ولا من يلتفتو لوجودها في طريق مصر-إسكندرية الزراعي، إلا أن لي خال، توفي في عز شبابه، كان راقصاً في فرقة رضا للفنون الشعبية التي أدت استعراضات شهيرة منها "الأقصر بلدنا". كسر خالي كمال تلك الصورة النمطية المركبة عن "رجل يرقص"، وتعييب الرقص عموماً. كما أن صور زفاف أبي وأمي، وحفلات زفاف أقاربي جميعاً، احتوت كلها راقصة العرس.كمصرية أولاً، وعربية ثانياً، لا أشعر أن الرقص عيب، فلكل شعب رقصته الخاصة وقد يشن حرباً إذا أهان أحدهم رقصته وثقافته المحلية. لكن المهين أن يصكّ بعض العرب قوالب ثقافية جامدة عن بعضهم البعض، كتلك الصورة النمطية عن المغاربة بأنهم ممارسون للسحر، أو عن الخليجيين بأنهم أثرياء بعقول فارغة، أو أن اللبنانيات منفتحات لدرجة الانفلات وأنهن سيمارسن الجنس مع أي شاب فور وصوله إلى لبنان وسؤاله أي واحدة "كيفك؟".