بعد انتهاء الحرب، كان لبنان كله لي. رحت كسائر المسحورين بسنوات السلم أمارس ما سيسمى "السياحة الداخلية". يا لمتعة قضاء نهار وليلة في فندق بالميرا ببعلبك مع سهرة فنية في قلعة مدينة الشمس. أيام كثيرة بأكملها في أنحاء طرابلس وأسواقها وبحرها. رحلات "هايكينغ" لا عد لها في كل الجبال، من الكنيسة إلى القرنة السوداء مروراً بصنين والأرز. السهر في جبيل. المواظبة على عطلة الأسبوع عند شاطئ صور. النوم الصيفي في حمانا، والليالي المبهجة في برمانا. استكشاف عكار بلدة بلدة. ملاقاة الأصحاب في سوق النبطية والانطلاق إلى بيوتهم في قراهم بين الدوير والزهراني والصوانة وشقرا ووادي جيلو. الاندفاع العاطفي نحو بنت جبيل بعد تحريرها. مشاوير لا تنتهي مرات ومرات من الناقورة إلى العديسة. تسلق جبل الشيخ مروراً بنبع الجوز والمبيت في شبعا والمشي إلى الهبارية وكفرشوبا. ومن منا لم يزر دير القمر ويتمتع بسهرات بيت الدين ويقضي وقتاً في ملتقى النهرين. من منا لم يشهق وهو يطل للمرة الأولى على جزين وواديها.بيروت نفسها رحنا نوسعها و"نغزو" المونو في التسعينات وشارع عبد الوهاب الإنكليزي، قبل زمن الجميزة ومار مخايل. ونمضي منجرفين إلى حياة تنبثق بصخب من عين المريسة إلى ساحة الشهداء، هناك في ساحات وشوارع وسط بيروت "الجديد"، بعدما أمضينا نحو عقدين محشورين ومنغلقين في "بيروت الغربية". وقبل ذلك، كنا قد انطلقنا حين سكتت المدافع نحو جونية وسيدة حاريصا وجعيتا وفاريا وعجلتون وكفرسلوان. عدا المشاوير المتعمدة نحو بيت شباب ونبع النعص وبكفيا لإحياء ذكريات طفولة هناك في زمن "البكنيك" بغابات الصنوبر، هناك كما عاليه وبحمدون..لبنان كله لي. هذا ما ظننته إلى حين بدأت الاغتيالات في بيروت (ونحن نعرف من اقترفها ويقترفها). صارت جغرافيتنا تتقلص وفق حدسنا أو حماقتنا الأمنية. وأتت حرب 2006، وجعلت الجنوب أرضاً منذورة للرايات وصور الشهداء وللعصبية المستنفرة التي لا تطيق المختلف. أو أن هذا الأخير بات يأثر راحة البال فلا يتجه جنوباً إلا اضطراراً.
على هذا المنوال، صار الجنوب يبتعد، وصار بحر صور ينأى عنا.أتى مشهد "السلاح لحماية السلاح" في أيار 2008، ليعيد بيروت "غربيةً" و"شرقيةً". وفي هذه الحال قررنا أنه من الأفضل أن نتجنب "الغربية"، بل ونهجرها سكناً واجتماعاً. لنترك الحمرا ورأس بيروت نحو بدارو مثلاً، ولنسكن في الضواحي الشرقية.
في الأثناء، مات وسط بيروت وتُرك كجثة متحللة في الهواء الطلق.ما كان يحدث على امتداد سنوات من معارك في طرابلس، وحروب عند تخوم البقاع، وانفلات العصابات المسلحة في بعلبك-الهرمل، وحوادث في الجبل، وعلى طول الخط الساحلي من بيروت إلى صيدا ومحيطها.. كل هذا كان "يسرق" منا أجزاء من لبناننا ويحرمنا منها.
بحثاً عن الأمان، وعن الانسجام، وابتعاداً عن المفاجآت غير السارة (كما حدث عند شاطئ صيدا أخيراً، مثلاً)، اخترنا بحر بلاد كسروان وجبيل والبترون. واخترنا بيتنا ما بعد متحف بيروت، وآثرنا الأشرفية للتسوق أو للجلوس في مقهى، وبدارو للقاء الأصدقاء ومواعيد العمل.
كانت جغرافيتنا تضيق شيئاً فشيئاً. وكنا مجبرين سنة بعد سنة، حادثة بعد حادثة، على صناعة "قوقعتنا" الآمنة، متخلّين عن حقنا بلبنان كله.على هذا المنوال، أصبحت "الفيدرالية القسرية" خياراً وحيداً لهؤلاء العنيدين الذين يأبون الهجرة. الذين ما زالون يقاومون دفاعاً عن فكرة لبنان الصعبة، والتي تبدو مستحيلة راهناً أكثر من أي يوم مضى.
وعلى الأرجح، هذا ما سيكتشفه سياحنا المغتربون الذين يجولون الآن في ربوع بلادهم.