(*) بعد الجزء الأول، هنا الجزء الثاني والأخير من مدونة نشرها الاقتصادي اللبناني، ميشال أ. سماحة، في صفحته الفايسبوكية..
4 -المصرف الفرنسي والآنسة X
كان من الضروري زيارة باريس. فللمرة الأولى منذ 2005 يمر اكثر من سنة دون زيارتها. جدول الأعمال والزيارات طويل. من بينها زيارة المصرف حيث لي حساب منذ دخلت فرنسا طالباً.
هدف الزيارة الأساسي التحدث إلى المسؤول والحصول على بطاقتي المصرفية الجديدة والاطلاع على آخر الخدمات (ما حدا يروح فكرو لبعيد هههه).
عبر e-banking، كنت أتواصل مع امرأة تحمل إسماً أوروبياً، وكانت دائماً موضع تقدير كبير على المستوى المهني.
وصلت قبل ساعة إلى ساحة المدينة حيث يقع فرع مصرفي. تغيرات كثيرة إيجابية حدثت منذ 2005. محطة مترو جديدة تحت الارض، إعادة صياغة الحيز العام، رفع السياج من حول البلدية، الحي حافظ على رونقه، والمقاهي جددت نفسها، هي والمطاعم. السيناغوغ (الكنيس) ما زال هنا بالقرب من البلدية والمصرف. من وقت لآخر تلمح فرنسياً من أصول يهودية باللباس التقليدي المحافظ. ظاهرة الكلاب التي ترافق نساء الحي عادت بي للصورة التي لدينا عن برجوازيات باريس في أوائل القرن الماضي، من التي نراها في الأرشيف.
بعد تناولي القهوة، دخلت المصرف. كم تغيّر المصرف في أوروبا! في وقت كان القطاع المصرفي في لبنان يزيد فروعه وعدد موظفيه، كانت المصارف في أوروبا وفرنسا تتمكنن وتتخلى عن موظفيها خصوصاً على front desk.
في المدخل مجموعة كبيرة من مكنات ATM. بعد ذلك موظف واحد فقطن للاستعلام والتوجيه.
أنا: صباح الخير، لدي موعد مع الآنسة X.
الموظف بعد مراجعة الكومبيوتر: أهلاً وسهلاً أستاذ، صحيح. تفضل للصالون وساقوم بإعلام المديرة بوصولك.
في الساعة عاشرة تحديداً، تصل المديرة ومساعدتها، بكل أناقةن مع ابتسامة تضاف إلى جمالهما. صباح الخير استاذ، اهلا وسهلا بك. انا الآنسة X التي كنت أتواصل معك. تفضل إلى المكتب. أتمنى أن رحلتك من لبنان كانت هادئة. أجبتها مع ضحكة ورددتُ التحية.
المديرة ومساعدتها، قدمتا لي الـbusiness card. كلاهما تحملان إسماً أوروبياً. لكن جمالهما يحمل ما يشير إلى أنهما من أصول مهاجرة مغربية. واحدة منهما لديها لكنة باريسية، الثانية لديها لكنة أقرب إلى الضواحي. إنهما ما يطلق عليه تصنيف les gens visibles. في أقل تقدير هما من الجيل الثالث. غنهما فرنسيتان، بكل ما للكلمة من معنى مع ترقٍّ اجتماعي واضح، أخرجهما بكل تأكيد من الضواحي وفقرها.
آليات الاقتصاد الفرنسي القائمة على الخدمات، تسهل دائماً وصول النساء إلى هذه المواقع التي نصنفها في علم اجتماع العمل بالـemplois fémino-tertiaire.
هكذا هو السوق. يجب التأقلم معه. في كثير من الأحيان تقوم النساء من المغرب العربي بصبغ شعرهن وتشقيره لتفادي التمييز وتسهيل إيجاد فرصة عمل في قطاع الخدمات. في حالة المديرة ومساعدتها، لم تكن هذه الحالة. من الخدمة التي تلقيتها، من الواضح أنهما قررتا الاعتماد على الكفاءة والترقي المهني والعمل على الذات من دون أي محاولة لطمس الأصول. إنها أجمل الطرق للمواطنة وتأكيد التنوع الإيجابي.
خرجت مرتاحاً من الاجتماع. فقصص المهاجرين وهؤلاء من ذوي الأصول المهاجرة كما مسائل الاندماج، لا يمكن تنميطها واختصارها. فيها الناجح وفيها الفاشل. والاندماج له دينامياته. أكيد لا يمكن بأي حال التعميم. لكن للوقت دوراً كبيراً. هذا لا يعفي المستوى السياسي من مسؤوليته.
بعد ذلك ذهبت إلى الفرن المواجه لمبنى البلدية، وكان يملكه رجل مسن يخبز أطيب الأطايب بطريقة تقليدية مع الحد الأدنى من الخدمة... فوجدتُ مالكاً جديداً. رجل وامرأة في الأربعين من العمر وقد حوّلا كل البولانجري والخدمة لتتلاءم مع متطلبات الجيل الجديد. الفرّان وراء الحيطان. والبائع بثيابه الـsport مع الزبائن. يبقى أن نعرف متى سيخرج الفران الجديد من المطبخ ويقابل الزبائن، هو الآتي من الهجرة باحتمال كبير؟
لم يتأخر الجواب كثيراً. للسنة الثانية على التوالي، La meilleure baguette de Paris تعطى لفرّان من أصول مهاجرة، ومع لكنة قوية في لسانه، لا في خبزه.
5 - في آخر الليل.. مسلسل مصري
كانت المرة الأولى التي أجرب فيها خدمة Air BnB. لأسباب كثيرة تتعلق بجدول اعمالي، قررت النزول في منطقة لا فنادق كثيرة فيها على أطراف باريس. في ذروة الموسم السياحي.
لم يكن ذلك سهلاً، خاصة أن انشغالاتي في لبنان أخّرتني في حجز المنزل.
يوم السفر، وأنا أعدّ الحقيبة للذهاب إلى المطار، اتصل بي صاحب الشقة وألغى الحجز. بعد شريعة وشد وجزر، استسلمت للأمر الواقع. سأصل إلى باريس وليست لدي غرفة. وأعلم سلفاً أني سأذهب إلى حل مكلف مادياً. Walk in guest في باريس في عز الموسم السياحي مكلف جداً، حتى في فنادق النجمتين.
اتصلت بابن خالتي، وبدأنا البحث سريعاً عن مخرج. فوجدنا فندقاً في الـbooking في الدائرة الخامسة Rue Monge في فندق نجمتين. هذا النوع من الفنادق المتواضعة التي تستعملها فقط للنوم. مرغوبة جداً من السياح والموظفين المارين لفترة وجيزة في المدينة.
خضعنا للسعر، ونعلم جيداً أن مفاجأة ما يمكن أن تحدث على المستوى نوعية الخدمة. لكن لا حول ولا...
وبما أننا لم نجد غرفة لليلة وصولي، أمضيت الليلة الأولى من زيارتي ضيفاً على ابن خالتي.
في اليوم الثاني ذهبت واستلمت الغرفة. فندق متواضع، تجري فيه أعمال تجديد وتطوير. لكن المفاجأة كانت عطل المكيّف في الفندق كله. لا حول ولا... غرفة في الطابق الأول، مطلة على طريق عام مزدحم، ولا مكيّف، ولا إمكانية لإغلاق الشباك. ولن تأتي شركة التصليحات قبل ثلاثة أيام!
الموظف على الاستقبال، من أوروبا الشرقية. يتكلم الفرنسية مع لكنة واضحة. طالب في فرنسا، لا يحق له العمل أكثر من 20 ساعة في الأسبوع، لكنه يعمل بدوام كامل. مهذب ويحترم الزبائن.
بدأت البحث عن فندق جديد، نجمتين أو ثلاث، في الشارع ذاته. كانت الفنادق محجوزة لأشهر. وضعت نفسي في لائحة الانتظار. معرض Le Bourget للطيران صعّب المسألة. في هذه الفنادق لاحظت شيئين أساسيين. أولاً، الفنادق كلها في طور التجديد. وثانياً، موظفو الاستقبال كلهم، إما مهاجرون أو من أصول مهاجرة. نقطة قوتهم اللغات الأجنبية. أعتقد أن السبب يكمن في أن هذه العمالة تقبل بدوام عمل طويل يصل إلى 12 ساعة يومياً. وبالتالي يستطيع صاحب الفندق الاكتفاء بموظفَين، عوضاً عن ثلاثة. هناك من كل الجنسيات، العربية، وأوروبا الشرقية، حتى عاملي النظافة في الغرف.
يجب أن تصل إلى فنادق أربع نجوم أو خمس، كي تتغير هذه التركيبة الوظائفية.
المهم، مع حرّ ورطوبة باريس، كانت ليلة صعبة جداً، دفعتني صباحاً إلى النزول مباشرة إلى الاستقبال وطلب تحضير خروجي وإعادة مالي. لكن حدث ذلك بعصبية للأسف. هذا ما لم أجده عند السياح الأوروبيين الآخرين.
استطعنا لاحقاً، مع حظ كبير، إيجاد غرفة في فندق بثلاث نجوم، مجدداً في الدائرة نفسها، قرب محطة Austerlitz.
بعدما حزمت حقائبي، وتنفست الصعداء، واطمأنيت إلى بقية رحلتي، ذهبتُ إلى الطالب الموظف، وكان قد أتم المعاملات والحسابات.
أنا: أنت لا تتحمل مسؤولية ما حصل عزيزي. أنت فقط موظف. أعرف ذلك وأعلم حجم الضغط الذي تتعرض له في هكذا ظروف استثنائية. أعذرني على عصبيتي. لم تكن ضرورية تلك العصبية، لكن جدول أعمالي كثيف وكنت متوتراً.
هو: معك حق. الضغط كبير، وأقوم بكل ما بوسعي لرفع التحدي. الحياة أصبحت غالية جداً. والفندق تحت التجديد، والخدمات ناقصة.
عند خروجي، تركت مبلغاً من المال وبدأت زيارتي، مع فندق جيد جداً، في مبنى يعود تاريخ بنائه إلى أكثر من 200 عام. هنا أيضاً، الموظفون من المغرب العربي وأوروبا الشرقية.
نعود إلى الفندق ليلاً... بعد منتصف الليل، الموظف التونسي يستمع إلى مسلسل مصري. هذا لا يمنعه من التحدث الفرنسية بطلاقة والقيام بوظيفته على أكمل وجه. إجمالاً، مَن يعمل في الليل، تكون لديه وظيفتان، لكني لم أشأ هذه المرة الاسترسال في الحديث للتأكد من معلوماتي.
هذه هي العولمة. هذه هي المدن الكوزموبوليتانية. في شارع موج، مطعم لبناني، لشخص ترك لبنان منذ أربعين عاماً. حافظ على لكنة جبَلية قوية، ولغة جسد مزارع، وحشرية نساء الأفران. هو أيضاً من هذه المدينة. أخذت وجبة سريعة... وبدأ المشوار.