في بلد تسخى جامعاته بخرّيجي إدارة الأعمال، وتعج مصارفه بالمدراء المخضرمين، لم تمتلك ماريان الحويّك ما تراهن عليه كي تقفز فجأة على سلّم الشهرة والمال، بمجرّد تخرّجها من الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة عام 2003، كما تشير بيانات الجامعة التي اطلعنا عليها. في الحالة الطبيعيّة، كان على الحويّك أن تراكم الخبرة والعلاقات لسنوات، بل وربما لعقود، قبل أن يلعب القدر لعبته، فتنجح بترؤّس قسم ما في فرع مصرفي، ثم تتدرّج صعودًا إلى رتبة مدير فرع، وهكذا دواليك.
قبل أن تدخل إلى مصرف لبنان، يصعب أن يعثر المرء على أي خبرة مهنيّة راكمتها السيّدة ماريان، أو حتّى تجربة عابرة يمكن وضعها على سيرتها الذاتيّة، ربما باستثناء مشاركتها في مسابقة ملكة جمال لبنان في عام تخرّجها من الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة، أي 2003. في تلك المسابقة، كانت ماريان مجرّد طامحة للشهرة، تتحدّث عن شغفها بالملاكمة والرقص الحديث والباليه واليوغا وركوب الخيل، وما إلى ذلك من الهوايات المألوفة. ما نكتشفه من تلك المشاركة أيضًا، هو أنّها كانت قد بدأت للتو، بعد تخرّجها، برنامج الماجستير في الحقوق في جامعة القدّيس يوسف، وهو ما يفترض أن تكون أنجزته بعد عامين، أي سنة 2005.الحويّك تتسلّق المناصب بسرعةهكذا، وبحلول العام 2005، وبعمر لم يتجاوز 25 سنة، ومن دون أي خبرة مهنيّة، دخلت الحويّك كموظّفة في مصرف لبنان. وخلال عامين فقط، استحدث سلامة ما عُرف "بالمكتب التنفيذي" في مصرف لبنان، لتترأسه الحويك، ثم قام بتعيينها بعد سنتين كمديرة مسؤولة عن المكتب التنفيذي للحاكم نفسه. وعلى هذا النحو، باتت الشابّة التي لم تعمل في مصرف تجاري أو مركزي من قبل، تجوب مديريّات مصرف لبنان لتُعد التقارير حول كيفيّة "إعادة هيكلة المصرف وإعادة تشكيل مديريّاته"!
والشابة المبتدئة، التي لا خبرة عمليّة لها بالعمل الاقتصادي المباشر، دخلت في تلك السنوات لجنة السوق المفتوحة، التي يفترض أن تتخذ القرارات المتصلة بتدخّلات مصرف لبنان النقديّة في الأسواق، عبر شراء أو بيع سندات الدين وشهادات الإيداع والعملات الأجنبيّة، مع كل ما تستلزمه هذه القرارات من دراية بتوازنات السوق النقديّة وتحولات أسعار الفوائد المتوقعة وأكلاف تدخّلات المصرف المركزي.
كما باتت الشابّة اليافعة عضوة في لجنة الاستثمار، التي تتخذ القرارات المتعلّقة بكيفيّة توظيف أموال واحتياطات مصرف لبنان في أسواق المال الدوليّة، ما يتطلّب متابعة وخبرة في حركة الفوائد وأسعار السندات والعملات الأجنبيّة وغيرها. وفي الوقت نفسه، باتت الحويّك المسؤولة المباشرة على تنظيم المؤتمر السنوي الذي ينظّمه مصرف لبنان، لدعم المبادرات والشركات الناشئة، والذي يُعد أحد أهم المناسبات السنويّة التي يقوم بها المصرف. وشيئًا فشيئًا، نالت الحويّك من المركزي الأضواء والشهرة، التي لم تنلها في مسابقة ملكة جمال لبنان.
ثم تأخذ الأمور منحى أغرب في مراحل لاحقة، حين تأسس المديرة المحظيّة في المصرف المركزي شركة خاصّة بإسم "كلاود إكس"، وحين يتبيّن أنّ هدف الشركة ليس سوى تقديم الخدمات لمصلحة المصرف المركزي نفسه، وفي مسائل تتصل بعمل الحويّك، مثل مسألة العمليّات الرقميّة. ولاحقًا، يتبيّن أنّ أحد المشاريع الطموحة التي سعت لتنفيذها الحويّك، من خلال "كلاود إكس"، كان إطلاق عملة رقميّة جديدة للبلاد!
مع الإشارة إلى أنّ كبرى المصارف المركزي في منطقة الخليج أمضت سنوات في عمليّة تصميم واختبار وتثبيت مفهوم العملات الرقميّة، من دون أن تطلق هذه العملات حتّى اللحظة، نظرًا لدرجة التعقيد التي تحيط بمهمّة تختلط فيها الإشكاليّات التقنيّة والأمنيّة، بالحسابات الماليّة والنقديّة، واعتبارات الاقتصاد الكلّي وسلامة النظام المالي. في المقابل، وبهذه الخفّة، كان مصرف لبنان يترك مهمّة بهذه الخطورة لموظّفة مبتدئة أسست شركة خاصّة بها لاستلام المشروع، من دون أن تمتلك أي خلفية أو خبرة مصرفيّة أو نقديّة أو معلوماتيّة ذات قيمة.
ما جرى، كان أشبه بطريقة إدارة الدكاكين، لا المصارف المركزيّة. لكنّ ما الذي تتوقّعه من حاكم يؤسس شركة بإسم أخيه ليحصد عمولات اليوروبوند، ومن شابّة مبتدئة باتت تضرب بسيف الحاكم بين ليلة وضحاها؟الحويّك في الاستجواب الباريسيفي الاستجواب الباريسي الأخير، واجهت القاضية آود بوروسي الحويك بالمعطيات التي تفسّر مسيرتها "الناجحة" في المصرف المركزي. فالأموال التي تلقّتها في أوروبا، وحسب داتا التحويلات بالتحديد، لم تكن سوى أموال المصرف المركزي نفسه، ومن السيولة التي يُشتبه باختلاسها من قبل حاكم مصرف لبنان. بصورة أوضح: لم تكن حسابات الحويّك سوى أداة وسيطة لتبييض وإخفاء أموال سلامة، قبل إعادتها له.
وحسب التحقيقات أيضًا، لم تتم كل هذه التحويلات إلا بجهد نبيل عون، الذي كلفه حاكم مصرف لبنان بإدارة عمليّات تحويل الأموال، وفتح الحسابات في الخارج وتقديم الإيضاحات المطلوبة للمصارف الأجنبيّة لقبول التحويلات. وبناءً على طلب سلامة نفسه، قدّمت الحويّك لعون الوكالات المطلوبة، ليتمكّن من التصرّف بكل الأموال التي دخلت إلى حساباتها في أوروبا، ما يؤكّد أنّ هذه الأموال تعود بالفعل إلى رياض سلامة.
لم تقدّم الحويّك تفسيراً مقنعاً لمواجهة كل هذه المعطيات، وخصوصًا تلك المتعلّقة بتلقيها الأموال الخارجة من مصرف لبنان، وإعادة الأموال من حساباتها إلى حسابات الحاكم في أوروبا. في مكان ما، حاولت الحويّك الإشارة إلى وجود حسابات لها في بنك الموارد، لتدّعي بأنّ الأموال خرجت فعليًا من هذه الحسابات، ومن إرث أبيها.
إلا أنّ مشكلة الحويّك تكمن في أنّ القضاء الفرنسي يشتبه بأن مروان خير الدين زوّر فعليًا كشوفات حساب خاصّة برياض سلامة، لتمويه مصدر أمواله. فهل تستطيع فعلًا الحويّك الاستعانة بخير الدين ومصرفه مجددًا لتبرير وتمويه مصدر أموالها؟ وهل ستثق القاضية بوروسي بخير الدين، المتّهم بالتواطؤ في عمليّة تبييض الأموال، أكثر من داتا التحويلات التي تثبت بأن الأموال خرجت من حسابات مصرف لبنان؟
في التحقيقات أيضًا، يرد إسم المصرفي أنطون الصحناوي، الذي يملك –فضلًا عن مصرف سوسيتيه جنرال في لبنان- مصرف ريشيليو في فرنسا وموناكو. وحسب الحويّك، تم تحويل الأموال التي جرى إرسالها لها إلى أوروبا إلى مصرف ريشيليو، بناءً على طلب رياض سلامة، بعدما حوّل سلامة نفسه أمواله إلى ذلك المصرف. ومرّة جديدة، يتضح مدى انغماس الحويّك في "العصابة" التي تورّطت في هذه العمليّات، وإن بصفتها أداة تم استعمال إسمها لتبييض أموال حاكم مصرف لبنان في أوروبا.في خلاصة الأمر، لن تنفع الحويّك بعد اليوم لائحة المناصب الطويلة التي أضافتها إلى سيرتها الذاتيّة، خلال عملها في مصرف لبنان. فاليوم، تبيّن أنّ هذه لائحة لم تفتقد للمنطق فحسب، من ناحية سرعة تسلّق الحوّيك المراكز المهمّة، بل ارتبطت أيضًا بشبكات مصالح "غير نظيفة" على أقل تقدير، وهذا ما يفترض أن يبعدها عن أي طموح مهني في الأنظمة المصرفيّة الأجنبيّة المرموقة. أمّا الأهم، فهو أن سيرة الحويّك كانت نموذجًا عن آليّات عمل العصابة، التي انكشف مؤخّرًا بعض ارتكاباتها من خلال التحقيقات الأوروبيّة.