يتكرر الاستغلال الاعلامي بطريقة تستدعي النفور. والمشكلة أن هوية الاعلام اليوم أصبحت "ممغنطة"، أي أن وسائل التواصل الاجتماعي سمحت لأصوات "ناشزة" أن تخرج الى العلن، فما عادت المراقبة الأخلاقية تقتصر على الصحافيين والاعلاميين فقط بهدف تحسين النوعية، وإنما يُجبر المشاهدون اليوم على النظر في كل السلوكيات التي اتخذت من هذه الوسائط مسرحاً عاماً لها، بغض النظر عن اللقب "الشرعي" الذي يحمله الناطقين بالمحتوى.
والحال أن المساحة الممتدة على ساعات "بالمجان" والتي قدمتها وسائل التواصل الاجتماعي، جعلت مصطلح "صانع المحتوى"، "ترند" يقوم على معياريين لا جدوى فعلية من ورائهما: الأول عدد المشاهدات، والثاني، الجذب الذي يقوم على بلبلة بغض النظر عن نوع المحتوى المقدم والهدف منه.ولا يقع بعيداً من هذا النقد، الفيديو الذي انتشر أخيراً في منصة "تيك توك" عن الطفل هادي المقداد، الممثل المشارك في مسلسل "الثمن" بدور ابراهيم (تلعب بطولته رزان الجمال) وهو يظهر بحالة "مأسوية" على اثر رشقه من قبل المذيع بالأسئلة عن "هجران" والدته له.
pic.twitter.com/wtsQlDMDqm
— _Media (@1_videos_1) July 2, 2023
بدا المذيع بارداً، متعالياً، ومن دون "شفقة"، وهو يحاول أن يعرف الأسباب التي أجبرت والدة هادي على تركه، طارحاً التكهنات والأحكام والسيناريوهات المحتملة. تم التعامل مع هادي وكأنه من المشاهير البالغين في العمر مع تجاهل طوعي لطفولته. غير أنّ دخول طفل الى معترك التمثيل لا يبرر جعله عرضة لـ"سكوب" اعلامي يضر ولا يفيد.
"نسيت والدتك أو بعدك بتفكر فيا رغم البلوك؟ عمتك عم تربيك؟ بتقول شي للبابا انو هوي السبب؟ اذا هيي ما سألت انت بتتصل فيا.. هي تركتك انت وأبوك وخييك وفلت... غني لها بركي قلبها بيحن وبتحكيك اليوم.. بابا بعدو بيحب الماما؟"
هذه العبارات بعضٌ من الاسئلة التي تلّفظ بها المذيع من دون أي تعاطف أو وعي بأن الجالس أمامه هو طفل مجروح ليس من السهل أن يتكلم عن معاناته أمام العلن، وليس من حق المذيع أصلًا أن يتعمد الى عرض هذه التفاصيل التي تعزز استثارة مشاعر ما بعد الصدمة.
لم يرأف المذيع بالطفل، اذ استكمل طرح الأسئلة واحداً تلو الآخر، من دون أن يدعم الطفل وموقفه ويصور له الجوانب الايجابية في حياته. بدت المقابلة استجواباً من أجل تعرية الحياة الشخصية لدى هادي من دون أن تكون الغاية واضحة.
والحال أنّ مثل هذه المقابلات تجعل الطفل معرضاً للتنمر والاستغلال والسخرية من المجتمع، وتحمل معها وصمة دائمة تغدو بشكل كبير مرتبطة بهوية الطفل الظاهرة، للتدليل عليه بحسب قصته الشخصية لا بناءً على ما يقوم به. فالمسؤولية الاعلامية تقتضي حفظ الحق في الخصوصية، والسرية، وحماية المنفعة الفضلى للطفل.
فالطفل وإن بدا واعياً بالظاهر، فهو ليس مدركاً للعواقب التي قد تتأتى عن تصريحاته، وبالتالي على الاعلامي أن يلعب دوراً استبقاياً لحمايته، وهذه المقابلة أتت لثبت عكس هذه المقاييس الإعلامية بشكل تام، لا بل عمدت الى تشويه معنى الطفولة بالمعنى الواسع.
الحقيقة أنّ الطفل لم يكن مخيراً وإن قدم أجوبته بشكل حر، اذ أنّ الأسئلة المقنعة وما حملته من أسلوب ملتوٍ من حيث التعريف والتوجيه والمحاصرة، أجبرت الطفل على تقديم الإجابة من دون أن تسمح له بالتغاضي أو الانسحاب.
في المقلب الآخر، استدركت قناة "الجديد" هذا الخطأ، وإن بدت وكأنّها تسوق للمقابلة كردّ على ما حصل. فقد ظهر هادي في مقابلة على القناة بعد يومين كطفل وسيم يتكلم بسعادة عن دوره التمثيلي، والتحديات التي واجهته وعلاقته مع الممثلين، يبتسم بين الحين والآخر، وواثقًا من نفسه.
حديث الطفل هادي المقداد #ابراهيم في مسلسل #الثمن عن #رزان_جمّالهالإنسانة مافي متلها ♥️ pic.twitter.com/MNnaK1zPYL
— Razane Jammal World (@RazaneWorld) July 2, 2023
نجحت القناة في وضعه في القالب الايجابي الذي يتناسب مع عمره ودوره وظروفه حيث لم تبخل الاعلامية بالإطراءات على هادي. فبعد كل سؤال عبّرت له عن مدى تقديرها له ومحبة الجمهور الكبيرة. سمحت هذه المقابلة لهادي أن يظهر كطفل عفوي يحب اللعب واللهو ويستمتع بوقته مع المحيطين، لكنها أيضاً سقطت في الدقيقتين الأخيرتين في فخ الشخصنة في ظل المبررات التي قدمتها الاعلامية لهادي، الذي عبّر بصورة واضحة عن مدى انزعاجه من أسئلة الناس عن أمه، ناهيك عن بعض الأسئلة العفوية التي طرحتها الاعلامية ولم يكن لها أي هدف صريح، كسؤالها عن من اشترى له البدلة؟ أو ماذا فعل بالأجر الذي تقاضاه؟
كررت الاعلامية أنّها لن تدخل في الحيز الشخصي. فـ"قناة الجديد" ليست على غرار "تيك توك"، وكأن هذه المبررات وسيلة دفاعية تشرعن لها المرور على هذا الموضوع ولو سريعاً. عادت وسألت هادي عن "أمه الحقيقيّة" وطلبت منه توجيه رسالة الى والدته عبر منبر "الجديد".
في الوقت ذاته، لا يمكن أن ننكر محاولات الاعلامية التي أظهرت تعاطفاً بالغاً لحماية مشاعر هادي عبر تذكيره بأنه نجم محبوب ورائع. على الرغم من ذلك، كان من الأجدر ألا يتكرر طرح الموضوع بشكل علني لأن هذا قد ينعكس على حالة الطفل ويتسبب له بمشاعر مختلطة عن نفسه وماضيه.
مع تداول المقابلة بشكل كثيف، تحول هادي، هذا الطفل البريء الذي لم يتوقع أن تنتشر قصته بأسلوب فضائحي في الفضاء الالكتروني، الى خبر لدى المنصات الاعلامية التي استغلت هذه المقابلة تحت عناوين مثيرة "بعد هجران والدته له... هذا ما فعلته والدته.. تصريحات صادمة"، وهذا كله كغطاء للحصول على بصمة "الأكثر قراءة وتداولاً". بدت هذه العناوين وكأنّها تبحث عن المجرم والضحية، تلقي اللوم تارةً، وتحاول تقصي الحقيقة تارةً أخرى.
أخيراً، من المؤسف أن يتخلى الاعلام، المستجد، والحالي، عن أخلاقياته بدافع كسب مشاهدات أكثر أو خلق بلبلة في الأوساط الاجتماعية، وحتى لو كان هدف الاعلام الربط أو الحل. فهذا لا يسمح له بتبرئة نفسه، اذ أن العمل الصالح لا يمكن أن يحقق مبتغاه اذا ما أُنجز بأسلوب راقٍ ومهني وأخلاقي. والأخطر أنّه، بدلاً من أن يقود الاعلام عملية التوعية لدى العامة، يتحول الى موضع نقد لدى الرأي العام "الواعي" منه، ويؤكد ذلك أن قوة الاعلام والتزامه المهني أمام انحدار في ظل هيمنة "الترند" على السوق كمعيار وحيد لتحديد القيمة.