الصمت. كل ما أبحث عنه هو الصمت. ذلك الهدوء البعيد النابع من أفق صعب المنال أو سراب يستحيل الوصول اليه. الصوت الوحيد المستحب هذه الأيام، صوت طرق أناملي على مفاتيح الكمبيوتر. الطريقة المثلى لتفريغ الضجيج العابق في رأسي، والذي يتماشى مع زحمة الحياة التي تزعم أن كل شيء على ما يرام.
أود لو يدوّي الصمت من حولي ولو قليلاً، أشعر بضوضاء كلما سمعت صوتاً. الأصوات الخارجية ليست الوحيدة التي تزعجني، يزعجني أكثر هذا الصوت الذي لا يعرف الكلل. لم تعد الموسيقى الصاخبة في السيارة تتغلب عليه، أو تُسكته إلى حين، لم تعد الموسيقى أصلاً ذات معنى. بهُتَت الأغاني، لم يعد لكلماتها وقع، فلا هي دافع للفرح ولا البكاء ولا تحيي ذكرى اللحظات السعيدة أو الحزينة. صوت تخبط الأفكار لا يعلو عليه صوت، أفكار تدعو للاستمرار وأخرى للاستلام، ومجموعة ثالثة تدعو للترقب، ورابعة تتهيّب الإفصاح عمّا تنادي به.أراقبني من بعيد، سيدة حرة مستقلة، ما إن تحاول ركن سيارتها حتى يسارع أي رجل من المارة، أو البائع المتجول أو حتى الطفل المتسول، إلى إبداء النصح وتوزيع الإشارات من يديه... طبعاً امرأة خلف المقود لا يُتوقّع منها أن تتقن ركن السيارة حتى لو أنها تقود لآلاف الكيلومترات. أود لو أصرخ به وأسأله: هل سبق لك وقدتَ سيارة على الأوتوستراد وأنت تمسك برضّاعة الحليب لطفلك في المقعد الخلفي بيد، وتقود باليد الثانية؟ هل سبق لك أن ركنت السيارة لتبدل حفاضات طفلك؟ أو أنك جلست لأكثر من ساعة في السيارة تقنع نفسك أنك تقرأ بهدوء بانتظار أن ينهي طفلك قيلولته؟عاملة أنا، كغيري من البشر، أتعب وأشعر بالإرهاق وقد أشعر بالإحباط، وفي كثير من الأحيان أستمتع بمهنتي، وأطمح لمركز أعلى وشهرة أكبر وحياة أفضل. ولأني امرأة، فلتَعَبي وصف آخر: "نق". فالنساء بطبيعتهن نقّاقات، ولا نوع آخر منهن. أمّا الطموح، فهو أيضاً نق، لكنه إيجابي، ولي الحق في ممارسته في حال لم يصل إلى محاولة الاستشهاد بغيري من النساء الواصلات. فامرأة في مركز مرموق مُشتبَه فيها، إمّا مدعومة أو وارثة، ولأنها امرأة فدعمها لا يأتي من عدم، بل يتربط بعلاقاتها "المشبوهة" بالذكور، ففي المعجم العام المتعارف عليه لا تترقى امرأة إلا بعلاقة جنسية أو عاطفية بأحد كبار القوم.عبارات مقتضبة: "شوفي مين مصاحبة"، "أكيد مزبطة حالها"، "ما إنت بدك تقرري شو بدك"، "ليه هي كيف وصلت برأيك؟"... وغيرها من الإساءات المرتبطة دائماً بنجاح امرأة، ليحل الإحساس بالذنب مكان الطموح الذي ؤبما يستقطب التأويلات، وكأن الطموح رغبة دفينة في اللحاق بركب السيدات الواصلات على أكتاف عشّاقهن. هذا الانطباع العام ما هو إلاّ وصمة مروّضة لمن يهبن كلام الناس، فيبذُر الشك في القدرة على العبور إلى ضفة المتمولين، وإلاّ لاحت ملامح العار في الأفق. لا قيمة حقيقية لمال المرأة، وكأنها جَنَته للآخرين، هي تجني المال لتساعد أهلها، وتكون يد عون في بيت الزوجية، وتحسّن ظروف عيش أطفالها. مال المرأة ليس ملكها، فهي جَنَته لأن أحدهم سمح لها بالعمل ودعمها لتثبت نفسها، فيكفيها فخراً أنها سيدة حرة مستقلة.أمٌّ أنا. أستمتع بأمومتي. لكني أيضاً مرهقة وخائفة. يخيفني هذا العصر بهواتفه المحمولة وذكائه الاصطناعي، أخاف على مدار الساعة بألاّ أكون متفانية بالقدر الكافي، أو أكون مقصّرة في مكان ما. في كثير من الأحيان لا أعلم إن كنت أعيش من خلال أمومتي، أو أني أقوم بدوري الحقيقي كأمّ. لكن ما هو دور الأم تحديداً؟ مَن يحدده؟ تلك الفيديوهات المنتشرة عن عمل 24/7 من دون إجازات أو دوام محدد، ومن دون بدل مادي؟ أو الأخرى التي تضع تسعيرة لكل خدمة تقوم بها في المنزل، فتطالب ببدل معلمة وطباخة وسائقة وحاضنة وغيرها من المهن التي تمارسها في رحلتها كأمّ؟ أم أن الأمومة هي تضحية مستمرة، مثال الجيل الذي يفنى ليحيا آخر.امرأة أنا. أتمنى لو يُنحَت جسمي من دون جهد، ألاّ يشكل النوم أو الراحة مصدر إحساس بالتقصير. أحاول تحديد مصدر الغضب المتجذر في داخلي، هل هي تراكمات أيام مضت؟ أم محصلة قرارات خاطئة اعتدتُ اتخاذها؟ أو سوء تقدير لم يحدد ساعة الصفر؟ أم هي خيبات الأمل رغم انتظار اللاشيء؟أنا. لم أقرّر السير نحو الإحباط. فقد حدث أن تأملتُ خيراً ورسمتُ أحلاماً واصطدتُ نجوماً... واصطدمتُ بالواقع!