على وزن المثال الجزائري في عقده الدموي، أتمت مصر عشرية تحت حكم نظام 30 يونيو. لكن، وعلى عكس عشرية الجزائر التامة والمنقضية كما يحلو لنا تصورها، فإن العقد المصري الثقيل لا يشي بنهاية له بعد، لا هي قريبة ولا على حتى في المدى المنظور. العشرية، بما أنها واحدة من التحقيبات الصغرى، أي الخلائط من التنبؤات والافتراضات وضروب التقسيم إلى مراحل، قصيرة أو طويلة، فهي لا تقول لنا شيئاً بحد ذاتها، بل نفرض نحن عليها مغزىً ما بأثر رجعي، بعد أن ننظر نحوها من الخلف، وبالضرورة من مسافة.هل العشرية طويلة بما يكفي؟ أهي علامة انقضاء أم مجرد بداية؟ الأجدر أن نسأل أنفسنا: هل من جدوى في انتهاز انقضاء العقد، أي اكتمال الرقم عشرة، تلك المناسبة العرضية وغير الملزمة لأي معنى، حتى نعيد التذكير بشيء ما أو نحتفي به، لنقاوم النسيان، للتأمل أو للحسرة؟ لعل الأمر ليس سوى عرض جانبي لصناعة الأخبار وعادات الكتابة الدورية، "عشرة أعوام على كذا"، لتسويد الفراغات أو ضبط إيقاع أحداثٍ قاهرة متعاقبة.تجعل السلطوية، الحاضر، صدعاً في الزمان، فاصلاً زمنياً يُحدد كلياً بأشياء لم تعد موجودة، وبأشياء أخرى لا توجد بعد. قد يجوز تعريف عشريّتنا المنصرمة هكذا، بما فقدناه، بعلامات المحو والتجريف والاقتلاع، وبفتات التحطيم وركامه، بثورة مهدورة وطموحاتها التي لم تتحقق، وبألوف في السجون. بمجال عام تم تخريبه كلياً، فلا سياسة حزبية ولا إعلام، وما بقي من منصات قليلة مصيرها الطمس. فُكّكت مؤسسات المجتمع المدني جميعها، وما لم يُفسخ، تم إخضاعه، من الجمعيات الأهلية إلى المنظمات الحقوقية والنقابات. أما الدولة فتم الاستيلاء عليها من الداخل، بحيث مُحيت أي علامات سابقة على استقلالية أجهزتها ولو صُورياً، وتمت التضحية بحياديتها المفترضة وبالحد الأدنى من مهنيتها.تتجلى الصورة الأوضح للغياب في الوجه المادي للمدن، في آثار الخراب الذي لحق بمخططها الحضري، حيث يطاول الهدم والاقتلاع والمصادرة والطرد، الأحياء والموتى معاً، ويطاول المبنى السكني والحديقة حيث تخلق الذاكرة الحميمة والعلاقة مع الفضاء العام، كما يطاول المقبرة والأثر حيث تؤسس الجماعة صلة مع ماضيها ومع نفسها. هذا ما يحدد حدود عشريّتنا، قطيعة كاملة ضد الاستمرارية. لكن المعضلة الأكبر هي أن ذلك الماضي لم يمضِ بعد، أو كأنه لم يمضِ، فلا نراه وكأنه قد انصرم. فمَن بقي قادراً على المقاومة، تنحصر مقاومته في التمسك بما كان يمكن أن يكون، أو في التشبث بما كان ولم يعد قائماً.أيضاً تُعرّف عشريّتنا الباقية والمتمددة، بما لا يوجد بعد، بأن "بَعداً" ما لا يزال خارج فضاء تصوراتنا، وعصياً على التخيل، وحتى لو لم غامرنا بتصوّره، فإن تلك المقامرة التي قد تبدو شجاعة تنتهي إلى سأم التفكير في إعادة بدء الماضي من جديد. فما الذي ننتظره، ثورة أخرى؟ احتلال الميادين أم انتخابات جديدة ستكون نتائجها كسابقتها؟ وفي ظل التداعي الاقتصادي المقبض، هل انعدم الأمل حتى في نجاة فردية؟ هكذا، لا احتمال للغد، حتى في أفق الخيال، فثمة حاضر مستمر لا يُستنبط منه سوى مستقبل مغلق. حينها لا يمكن التعويل على أي تراكمية للزمن، تلك التراكمية التي لا تحدث في أي حال إلا من وقت لآخر. هكذا يكون نظام الزمان بإجماله، وبالأخص في تحقيباته العشوائية، موضع شك.إن كان ثمة ما يمكن لمرور العقد أن يكشفه لنا، فهو أنه، في حالتنا، زمن مفقود، زمن معلّق بين هاويتين، بين ماضٍ لم يتم ومستقبل لا يجيء، وكأن تلك العشريّة لم تحدث.