دفاعاً عن ابنتي الفرنسية
2023-07-04 10:26:45
أتى معظم ردود الأفعال العربية على ما يحدث في فرنسا ضمن القسمة العربية المسبقة، وهي قسمة لا تعترف بالحدود والبلدان، ولا يقتنع أصحابها بأن ضاحية "سان دو ني" ليست الضاحية الجنوبية لبيروت، وليست إدلب التي تحكمها وتتحكم بأهاليها جبهة النصرة الإسلامية المتشددة. وما يفضح القسمة الحالية أنها لم تظهر في حدث مشابه، ففي مقتل جورج فلويد قبل سنتين في الولايات المتحدة، حيث كان الجاني شرطياً أبيض دعس على رقبة رجل أسود حتى الموت، لم تظهر انقسامات على خلفية جنس القاتل والقتيل، بما أن أيّاً منهما ليس عربياً ولا مسلماً.
أثار مقتل فلويد احتجاجات وأعمال شغب واسعة، لا تقلّ عمّا حدث في فرنسا خلال الأسبوع الأخير، وهذه المقارنة لا تهدف إلى تبرئة مثيري الشغب والعنف هنا أو هناك، ونسوقها من أجل الذين توقفوا فقط عند أعمال الشغب في فرنسا، وبدلالة مثيريه لا بدلالة أسبابه. في الحالتين، الحديث هو عن بلدين ديموقراطيين، يُفترض أن يسود فيهما القانون، وهنا جوهر الاحتجاجات التي يرى أصحابها واحداً من أمرين؛ إما أنهم يرون القانون غير عادل كفايةً ويجب تعديله، أو يرون الخلل في الجهات المكلّفة بتنفيذه ويأخذون عليها انتقائيتها أو عنصريتها. جانب مما تقوله لنا الديموقراطيات أن القانون غير مقدَّس، وأن تطوير القوانين، أو تطوير كفاءات منفّذيها، استلزم في العديد من الحالات حركات احتجاج.
لأن "باريس مربط خيلنا" حضرت في قضية مقتل المراهق نائل كل الحمولات التي غابت إثر مقتل جورج فلويد، فالضحية في الحالة الفرنسية سًرعان ما يُردّ إلى أصوله العربية لتبدأ حفلات الردح والردح المتبادل بناء على هذه القراءة التي ينظر إليها طرفاه بصوابية مطلقة. مناصرو الضحية بناء على عروبتها أو إسلاميتها يحسبونه عربياً مسلماً مثلهم، وكأن نشأته في فرنسا "أو كونه مولوداً فيها" لا يؤثّران في هويته المفترضة. كذلك هو حال الطرف الآخر الذي تجاهل مقتل المراهق ودلالاته ليصوّب على أحداث الشغب الصادرة عن عرب، والعرب بتعريفه وباستثناء أمثاله "هو العربي أيضاً" هم أصحاب تلك الهوية العربية الإسلامية المنغلقة المتزمتة التي لا تحول ولا تزول ولو جابوا العالم بأسره.
تلك الأفكار المترعة بما هو هوياتي بعيدة عما يحدث في فرنسا، بعيدة مفاهيمياً أكثر من بعدها الجغرافي. أول الأخطاء الفادحة أن المراهقين هم البؤرة الأساسية للحدث الحالي، وهم بنسبة ساحقة "إذا لم نقل بنسبة 100%" فرنسيون. ليس مهماً ما إذا كانوا يحملون الجنسية رسمياً أم لا، لكنهم "بالنسبة التي أشرنا إليها" يتحدثون الفرنسية كلغة أمّ ويفكّرون بها، ودرسوا أو يدرسون مناهج فرنسية في مدارس فرنسية عامة. وفقدان لغة الأهل الأم "بكل حمولاتها" قد يكون أقلّ المخاوف لدى أهاليهم وأكثرها شيوعاً، ومن المتوقع وجود تخوفات مغايرة لدى أهالٍ من عقليات مختلفة، ومنها "لدى البعض" ألا يحتفظ الأبناء بهويات أهاليهم العرقية واللغوية أو الدينية، وهذا بلا أدنى شكّ ضغطٌ على الأبناء قد يولِّد بعض الشروخ النفسية، من دون أن ينجح في إعادتهم عن فرنسيتهم كأمر واقع بحكم وجودهم في فرنسا.
لا يندر بالطبع أن تشتد مخاوف الأهل مع شدة إحساسهم بخطر "فقدانهم" الأبناء، وأفضل حليف لهم هي دعاوى اليمين العنصري الذي يروّج لصورة نمطية من المهاجرين، والسياسات التي تصبّ في منحى الفصل بين "الفرنسيين" و"المهاجرين". نذكّر باختصار بأن ترك أعمال بعينها لذوي الأصول المهاجرة يعني حرمانهم من التنوع الاجتماعي، بما أن العمل مكان لانعقاد العلاقات الاجتماعية بما يتعداه مكاناً وزماناً. وبأن عزل "المهاجرين" في أماكن السكن، وعزل أبناءهم في المدارس تالياً، هو حليف آخر لشريحة من الأهالي متشبّثة بهويتها. إلا أن الأفظع يأتي من النظرة العامة التي يلمسها الأبناء، ثم يفهمونها بوضوح أو فظاظة شديدة لاحقاً، وفحواها: أنتم لستم فرنسيين.
حسب تقرير صدر عام 2017، يتعرض المراهقون والشباب في فرنسا للتمييز بناءً على السحنة واللون، فيزيد نصيب السود والعرب من التدقيق "الأمني" بمقدار عشرين ضعفاً عن نظرائهم ذوي السحنات الأخرى. وفي فرنسا يحتفل المراهقون ببلوغهم السادسة عشرة من أعمارهم، لأن هذا هو "سنّ الخروج"، ويضع الأهل في حسبانهم أن الأولاد قد يختبرون "إن لم يكونوا قد فعلوا من قبل" الجنس والكحول والتدخين، وربما الحشيش. وما يضعه الأهالي في الحسبان ربما يضعه البوليس أيضاً مع قرينة المراهقة وطيشها، ليصبح المراهقون مدعاة للارتياب، وليكون من بينهم الذكور أصحاب السحنات السوداء أو العربية في طليعة من يستهدفهم بالتدقيق الأمني الروتيني، أو الذي يلي بعض الحوادث. على سبيل المثال، سيخاطر كثيراً مراهق "ذكر أسود أو عربي" إذا نسي بطاقة تعريفٍ بشخصه، بينما قد يجوب الباقون فرنسا طولاً وعرضاً من دون أن يُسأل أحد منهم "أو منهن" عن بطاقة تعريف.
إن سنّ الخروج إلى العالم الواسع يصبح لدى كثر لحظة الصدمة الكبرى، وأقلّ ما في الأخيرة أن الطفل الذي كان ينظر إلى رجال البوليس بوصفهم حماةً من الأشرار سيراهم وهو مراهق كأعداء يتربّصون به. أما صدمته بالتمييز ضده، من بين المراهقين، فهي أكبر مما يتوقّع أصحاب التحليلات الهوياتية لأنه أصلاً يعتبر نفسه فرنسياً، ولا يضع فرنسيته تحت التساؤل حتى مع معرفته بأصول أهله المهاجرين. ومن نافل القول أن العنصرية عمياء، وأصحابها لن يدقّقوا في خلفية الضحايا ليستكشفوا ما إذا كان لأهاليهم نزعات "انعزالية" أم لا.
المراهقون والشباب الصغار في العديد من مدن فرنسا أخرجهم مقتل نائل ليحتجوا على ذلك كله، ثاروا بغضب "بلا تنظيم أو قيادة أو توجيه" من أجل معاناتهم المشتركة، لا من أجل أصول أهاليهم العربية أو الإسلامية كما يشتهي مدافعون عنهم بوصفهم عرباً وإسلاماً، وكما يشتهي أيضاً من أتتهم فرصة القول: انظروا إلى ما يفعله تخلف العرب والإسلام أينما حلّوا. إنهم فرنسيون، وأيّ دفاع عنهم لا ينطلق من ذلك هو دفاع مغشوش، وكذلك أي تهجّم على احتجاجاتهم وما تخللها من أحداث شغب وعنف يُراد رميها على هوية بعينها. المصيبة عندما يكون طرفا الجدل عربيين ليست فقط في بعدهما عن الواقع الفرنسي، هي أيضاً في رؤية الطرفين لأحوال البلدان العربية التي ينتمي أفرادهما إليها، وهي رؤية هوياتية إقصائية ضمن البلد الواحد، وفي معظم الأحيان استُخدم الحدث الفرنسي لتصفية حسابات محلية أو أيديولوجية لدى متفاعلين معه من العرب.
في بداية ثمانينات القرن الماضي كانت أول موجة احتجاجات كبرى لأبناء المهاجرين، ضد سياسات التمييز والإقصاء والتهميش، ثم اشتعلت الضواحي مرة أخرى في مستهل التسعينات، والأقرب إلى الذاكرة هي احتجاجات عام 2005 على خلفية مقتل مراهقين صعقاً بالكهرباء بسبب فرارهما من الشرطة. المؤسف أن ردود الأفعال الرسمية وتلك الصادرة عن اليمين في الأيام الأخيرة لا تفيد بتعلم الدرس، بدءاً من إنكار المشكلة وصولاً إلى قول رئيس بلدية يميني أن المشاغبين كشفوا عن وجههم الحقيقي، وجه القتلة! مؤدّى ذلك أن فئة وازنة في فرنسا تكره صورة فرنسا المتعددة، فرنسا التي تضع في شعارها الرسمي المساواة والأخوة إلى جانب الحرية. إنهم يكرهون فرنسا الحقيقية والواقعية ويسمّمونها، من أجل فرنسا متخيَّلة ومستحيلة. في فرنسا تعيش طفلتي التي لم تعرف بلداً آخر، وهي وأقرانها ليسوا أقلّ فرنسية من سواهم؛ الدفاع عنهم يبدأ من هنا، من الدفاع عن فرنسا الحقيقية الواقعية.
وكالات