حبيب صادق..سيرة طائفة ووطن
2023-07-03 10:26:42
لم يكن الراحل حبيب صادق، فريداً في تكوينه، كسليل لإحدى العائلات الدينية الجنوبية المرموقة التي أنجبت شيوعيين ويساريين أكثر مما أنجبت رجال دين. كانت الظاهرة ملموسة في مختلف الانحاء الشيعية، وكانت نتاج إلتحاق الشيعة "المتسرع" بمشروع الدولة اللبنانية الوليدة في خمسينات وستينات القرن الماضي، من دون ان تملك الطائفة أدوات ووسائل، سوى اليسار اللبناني الذي اندمجت به حتى الثمالة.
هكذا فقط، يمكن إختزال الرجل وتجربته الخاصة جداً، التي لم تجد لنفسها موقعاً في التقليد (الاقطاع ) السياسي اللبناني، فظلت على هوامشه، وإختارت اليسار ثقافة، والثقافة علماً، حتى عثرت في بقية الطوائف اللبنانية على شركاء (يساريين)، سلكت معهم دروب الخروج من الحرب الاهلية، وغامرت في مساعي "العبور الى الدولة"، حسب التعبير الذي إشتق في رحاب المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، وفي حضن مؤسسه حبيب صادق، ورفاقه الذين توزعوا في ما بعد على مختلف المغامرات السياسية المناهضة للحرب الاهلية، وبينها المغامرة الحريرية.
كان المجلس يعبر عن هوى ثقافي أصيل للراحل الكبير، الاديب والشاعر ، الذي حوّل تجربة أدباء الجنوب وشعرائه الى ظاهرة، ازدانت بين الحين والاخر بقصائده، وصارت في اعقاب الخروج الفلسطيني من لبنان، مركزا لبكائيات الهزيمة (اليسارية) اللبنانية، ومرثياتها.. من جهة ، ومن جهة أخرى منصة لمصالحة الآخر اللبناني(اليميني إصطلاحاً) مع تلك الحقبة، ومع مشروع الدولة المتعجل الذي صيغ في الطائف، وما زال في معظمه حبراً على ورق.
وكما تطرف حبيب صادق في تمرده على إرث العائلة الديني، وعلى عار الاقطاع السياسي الجنوبي، تشدد ايضاً في تكوين هويته الجديدة، حتى استحق عن جدارة ، وعن فخر، صفة "الاقطاعي الثقافي"، التي اطلقت عليه كتهمة، فإذا هي تتحول الى ميزة، وبراءة من تاريخ إشكالي، وشهادة بأن الرجل، وكثيرين مثله من شباب عائلات شرف الدين وصفي الدين والامين...اكتسبوا العلم السياسي الوحيد الذي يحتاجه الجنوب أكثر بكثير مما تركه الاسلاف، ولم يتخلوا عنه حتى الرمق الاخير، أو عندما كانت تصفية اليساريين رياضة شيعية ناشطة في ثمانينات القرن الماضي.
وفي تلك الحقبة بالذات، كان الرجل وأترابه، يدرك ان التدخل العسكري السوري هو نقيض هذه المسيرة المتعثرة، ومدمراً لها بكل المعاني، حتى الدينية التي اعتمدت على مناهضة ذلك اليسار اللبناني وتصفيته نهائياً وعلى اقامة أحلاف وثيقة مع المتدينين الجنوبيين، بوصفهم سلاحاً فورياً ضد المقاومة الفلسطينية ثم بديلاً لتجربة سياسية حليفة لها، كانت بالفعل تلفظ أنفاسها الاخيرة.وكان حبيب صادق يؤمن بأن الجيش السوري ليس رادعاً أمنياً، بل هو حاجز يقطع طرق التواصل والتفاهم والتصالح بين اللبنانيين على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم السياسية...إذا لم تكن تمر بدمشق، وإذا لم تخضع للحسابات السورية ، ثم الايرانية الخاصة.
ما يقرب من تسعين سنة هي عمر حبيب صادق، وهي حقبة التحولات والتقلبات الكبرى في تاريخ الجنوب ولبنان، وهي سلسلة الحروب الاسرائيلية التي لم تنقطع: من العمامات التقليدية الاولى الى العمامات التجديدية الاخيرة، وما بينهما من زمن قطعه الشيعة اللبنانيين، بحثا عن هوية، وعن وطن لم يدركوه حتى اليوم، مثلما لم يعثر عليه أحد من الطوائف الاخرى. والاسوأ من ذلك ان المحاولات توقفت نهائيا ولم يعد هناك مجلس ثقافي يجمع اللبنانيين، مثلما كان يجمعهم الراحل الكبير.
وكالات