إلى حين أن تتكشف كيفية وحقيقة مقتل الشّابين هيثم ومالك طوق في بشري يوم أول من أمس السبت في منطقة على تخوم القرنة السّوداء، ستبقى الشّائعات والأقاويل سيدة السّاحة إلى حين كشف ملابسات الجريمة كاملة.
وفي حين وُجّهت أصابع الإتهام إلى أهالي بلدة بقاعصفرين في الضنّية بأنّهم يقفون خلف الجريمة النكراء، بلا وجود أيّ دليل حسّي، فإنّ الخلافات القديمة ـ الجديدة بين الجانبين حول ملكية القرنة السوداء والمشاعات المحيطة بها، كانت كافية لأن تجعل وقوع هكذا جريمة أمراً واقعاً في نهاية المطاف، بعدما عجزت الدولة أو امتنعت، ضعفاً أو عمداً، عن إيجاد حلّ لهذا النزاع الذي يتجدّد سنوياً، لكنّه لم يذهب إلى حدّ أن يكون دموياً ويسقط بسببه ضحايا وجرحى، فضلاً عن الخسائر المادية وأجواء التوتّر والتحريض التي تطلّ برأسها مطلع كلّ صيف من كلّ عام.
وإذا ثبت أنّ الحادثة كانت بسبب خلافات على أراضٍ ومشاعات بين الضنّية وبشري، أو بين أفراد وجهات داخل منطقة بشري نفسها، فإنّ هذا الحادث ليس الأول من نوعه الذي تشهده المناطق اللبنانية، ولن يكون الأخير.
فمطلع الأسبوع الماضي عُثر على جثّة الشّاب أحمد درويش في خراج بلدة عكّار العتيقة، مسقط رأسه، وتوجّهت أصابع الإتهام حينها أيضاً بلا أيّ دليل حتى الآن إلى بلدة فنيدق المجاورة، بسبب خلافات قديمة ـ جديدة بين البلدتين حول ملكية منطقة القموعة ومحيطها، ولأيّ بلدة تعود هذه الملكية.
لكنّ هذه الجريمة لم تأخذ الضجّة التي أخذتها جريمة بشري، سياسياً وإعلامياً وشعبياً، لأنّ جريمة عكّار نُظر إليها على أنّها وقعت بين أبناء منطقة واحدة وطائفة واحدة، لا تستدعي بنظر البعض أيّ استنفار؛ بينما جريمة بشري التي حاول البعض أن يعطيها صبغة صراع طائفي ومناطقي فقد جرى التعامل معها بحذرٍ بالغ، إلى حدّ أنّ البعض نبّه من أن تكون مقدمة لاشتباك مُسلّح وصولاً إلى حربٍ أهلية!
غير أنّ هذه الخلافات حول ملكية الأراضي والمشاعات ليست جديدة ولا نادرة. إذ تكاد لا توجد منطقة لبنانية إلا وتشهد هكذا نزاعات بشكل دائم أو متقطع، سواء بين المناطق أو بين الأقضية أو بين البلديات، وصولاً إلى نزاعات بين العائلات والأفراد، ممّا يجعل هذه الخلافات تبدو وكأنّها جراح نازفة لا تجد من يُضمدها، بعدما بات كلّ طرف معني بالنزاع يتعامل مع ملكية هذه الأراضي وحدودها وكأنّها حدود بين دول معادية، وليست مجرّد حدود إدارية داخل دولة واحدة.
ولا شكّ أنّ الدولة اللبنانية تتحمّل، قديماً وحديثاً، مسؤولية هذه النزاعات، بعدما تركتها تتراكم وتكبر مع مرور السنين مثل كرة الثلج، من غير أن تبادر إلى معالجتها فوراً، ما جعل التأخير في حلّها يكبر ويشتد إلى حدّ الإستعصاء، وباتت كلفتها باهظة بعدما كان بالإمكان حلّ هذه النزاعات بأقل الأثمان.