ينتقل لبنان إلى مرحلة "صراع الجغرافيا". هو مجال جديد للتصارع اللبناني بعد صراعات على التاريخ، الهوية، والوجهة. حادثة القرنة السوداء يمكنها أن تكون مناسبة لإطفاء كل محاولات تعميق الشرخ والانقسام، كما يمكنها أن تكون مناسبة لزيادة منسوب التوتير الأهلي والمخاطر الأمنية. تأتي حادثة القرنة السوداء المستجدة، على وقع انقسام لبناني كبير حيال ما تشهده فرنسا من تظاهرات، يندفع اللبنانيون على وقعها إلى تسعير الحملة على اللاجئين والمهاجرين، في محاكاة واضحة لنظرتهم تجاه اللاجئين على أراضيهم. فلا يقتصر الصراع الجغرافي و"الهوياتي" على القرنة السوداء بين بشري من جهة وبقاع صفرين في قضاء الضنية من جهة أخرى. هناك مناطق كثيرة يشتعل فيها الصراع الجغرافي.إيقاظ الشياطينتلك الحادثة يمكنها أن تفتح سجالات وسجلات ودفاتر لقضايا خلافية عقارياً كانت نائمة. فكما هو الحال بالنسبة إلى الصراع بين الضنية وبشري، كذلك هو الحال بالنسبة إلى الانقسام الشيعي الماروني حول الوضع في لاسا والعاقورة، إذ في تلك المنطقة صراع جغرافي وعقاري مديد أيضاً. وسابقاً، في أعقاب الثورة السورية وتداعياتها على لبنان، وفي مرحلة "حرب الجرود" ومعاركها التي خاضها حزب الله، برزت مشكلة تتعلق بجرود عرسال الواسعة والشاسعة، والتي وضعها حزب الله في خانة المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيمات الإرهابية، وكان لا بد من تطويقها تمهيداً للسيطرة عليها. وهو ما حصل. وكما استفاقت تلك الشياطين في تلك المرحلة، فيمكن لحادثة القرنة السوداء أن توقظ شياطين الصراع العقاري والجغرافي في البقاع الشمالي وحول منطقة دير الأحمر.
في المعيار الداخلي تتقدم الصراعات والخلافات الجغرافية على الأراضي والمواقع، فيتكون انقسام سياسي يأخذ طابعاً طائفياً أو مذهبياً. بخلاف الواقع المشهود في جنوب لبنان منذ فترة، وتحديداً بعد التحركات التي قام بها أهالي العرقوب للدخول إلى الأراضي المحتلة والمطالبة باستردادها. وفيها ظهرت معالم وحدة وطنية بين أهالي العرقوب وهم من الطائفة السنية، مع حزب الله وخلفهما الجيش. ما يتحقق على الحدود الجنوبية يغيب في الداخل، ويمكن في حال عدم معالجته أن يؤسس إلى ما هو أخطر، خصوصاً من بروز دعوات التقسيم والفدرلة والترسيم بين المناطق.خرائط الجيشبالعودة إلى حادثة القرنة السوداء، فهي نتيجة لخلاف تاريخي على تحديد مسألتين أساسيتين. الأولى، أين ينتهي قضاء بشري وأين يبدأ قضاء الضنية. المعلومات تؤكد أن الخرائط لدى الجيش اللبناني تعطي المنطقة كلها للضنية. ولكن أهالي بشري يرفضون الاعتراف بها. والثانية، هي صراع على الاستفادة من ثلاجات المياه التي يستخدمها أهالي الضنية للري، فيما أهالي بشري يعتبرونها تمون المنطقة الجوفية لمنطقتهم. وهذا يعود إلى مشكلة 35 بالمئة من الأراضي اللبنانية خارج نطاق جبل لبنان، والتي لم يتم ترسيمها ولا مسحها عقارياً أو طوبوغرافياً. في بداية الشتاء حصل إشكال آخر أيضاً، إذ تم تفجير محطة التزلج في القرنة السوداء، وكانت العملية بطريقة احترافية حسب التحقيقات. إذ لم يتم ترك أي أثر لكيفية إجراء عملية التفجير. وفي حينها صوبت الاتهامات باتجاه أهالي الضنية. وكأن هناك محاولات لإزكاء نار الفتنة.
قبل أسبوعين حصلت حادثة مع رعاة أغنام من منطقة الضنية. ولكن قبل أيام -وتحديداً ليل الجمعة- سمع إطلاق رصاص في المنطقة ليلاً، ليكتشف صباح السبت أن هيثم طوق وجد مقتولاً. وفي تلك المنطقة أيضاً هناك مساحات تدريب للجيش اللبناني، الذي اتخذ وضعيات أمنية من خلال نشر حواجز في كل المنطقة، فيما عمد أهالٍ من بشري إلى التوجه لتلك المنطقة، وقد وقع اشتباك بينهم وبين الجيش. وقد عمل الجيش على قطع الطريق على أي محاولة لزيادة الانقسام من خلال البيان الذي أصدره.