اختزلت زحلة عشية عيد الأضحى مشهدية الانقسام الاجتماعي العامودي، الذي بدأت معالمه تتظهر بشكل أوضح مما كانت عليه منذ بدء الأزمة التي عصفت باللبنانيين نهاية العام 2019. فمن ناحية، تكرر أمام المصارف مشهد أرتال موظفي القطاع العام والعسكر الذين يتهافتون شهرياً على الصرافات الآلية لقبض رواتبهم التي لم تعد قيمتها تتجاوز بضعة مئات الدولارات. ومن ناحية ثانية بدا وسط المدينة وكأنه في احتفالية استعادة اللبنانيين لعافيتهم. فحركة البولفار والمطاعم الحديثة وخصوصاً في فترة المساء، لا تشي بأن هناك عشرات العائلات في المدينة تنتظر يومياً الطبق اليومي الذي تقدمه لها الجمعيات الخيرية حتى لا ينام أفرادها جياعاً. لينسحب هذا التناقض أيضاً في مقاربة هذه المشهدية مع الحركة التجارية داخل محلات الألبسة والنوفوتيه، والتي لا يزال بعضها يحاول أن يستقطب ما انعدم من زبائن الطبقتين الوسطى والفقيرة، فتسقط من حساباتها وإمكانياتها أيضاً متطلبات رواد المرابع الليلية والمطاعم والمقاهي، والذين يبحثون عن القيمة المضافة بملبسهم كما هو الحال بالنسبة لمأكلهم. وهذا ما يكشف عن طبقية حادة، دفعت بالاستثمارات الجديدة إلى استهداف أصحاب المداخيل المدولرة أو أموال الإغتراب، وتسعى لخلق عالم من الفرح لهم، بمقابل غرق طبقة غير الميسورين في بؤسهم.استثمارات.. ولا مصارفيتظهر هذا الواقع، في وقت باتت الاستثمارات تعتمد بشكل أساسي على مبادرات فردية، تبحث عن فرص لتوظيف الأموال الطازجة من خارج النظام المصرفي. في مقابل خسارة غير المتمولين فرص ترجمة طموحاتهم عبر الاستحصال على قروض كانت توفرها المصارف للانطلاق بالمشاريع.
إذاً "الفريش دولار" هو الذي يوظّف في الاستثمارات الجديدة، وهو الهدف منها أيضاً. في حين ودّع أصحاب المبادرات فكرة الحصول على القروض الميسّرة، والتي كانوا يعتمدون عليها لتحاشي المخاطرة المباشرة بمدخراتهم.
يخبر وليد، وهو واحد من أصحاب المقاهي المشهورة في مدينة زحلة، أنه أراد أن يستثمر ما حرره من أمواله المصرفية بشراء مبنى عرضه صاحبه للبيع بأقل من قيمته، طمعاً بمبلغ من الدولار الطازج. ولكن عندما ظهرت حاجة وليد لاستكمال المبلغ الذي بحوزته، لم يجد من يقرضه مالاً، حتى وسط أقرب المقربين له. برأيه أن لا أحد يريد أن يخاطر بالأموال التي نجح بتحريرها، أو التي أدخرها من عمله في سنوات ما بعد الأزمة، فيما الثقة فقدت تماماً بالمصارف التي كانت تلعب دور الوسيط بين أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين في مرحلة سابقة.
هذا الواقع يبدو كافياً لكبح الوضع الاقتصادي تماماً، وفرملة كل إنفاق استثماري في الاقتصاد اللبناني، لولا الليونة التي يظهرها اللبنانيون في التأقلم مع كل الظروف، لإنتزاع الفرص حتى من أسوأها. إلا أن الأوفر حظاً بهذه الاستثمارات حالياً هم أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، الذين يستهدفون الطبقة التي تشبههم، لينفقوا في قطاعات سياحية تجذب من يملكون قدرة الإنفاق، سواء أكان هؤلاء من المغتربين أم المتمولين أو أصحاب المداخيل المدولرة، غير المتأثرة بواقع الانهيار الذي تعانيه الدولة ومؤسساتها على مختلف الصعد. وهذا تحديداً ما يحصل حالياً في زحلة.تحولات المدينةبأقل من سنة بدأ الوجه الاقتصادي للمدينة يأخذ طابعاً مختلفاً. ما لا يزال يصمد من المحلات التجارية المخضرمة، يعيش أصحابها في حالة من البطالة المقنعة، باستثناء من حقق قفزة نوعية، سواء في جودة الخدمة التي يقدمها أو نوع البضاعة المعروضة وقالب تميزها، وكلها أمور تسعى لإرضاء الزبون المتموّل.
إلا أن الأبرز هو ما تبحث عنه المؤسسات عن القيمة المضافة في مجال الخدمة السياحية تحديداً. بعدما وجد البعض في زحلة مكمناً لاستعادة استثماراتهم في هذا القطاع، خصوصاً أن زحلة من الناحية الاجتماعية، هي الوحيدة القادرة على لعب هذا الدور في وسط محيطها.
وعليه تحوّلت المدينة في أشهر قليلة إلى قبلة للاستثمار في قطاع المطاعم والمقاهي والملاهي الليلية، مع توجه لاستثمارات ضخمة في القطاع، توازي الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة الحجم. وهذا ما بدا يشيع نوعاً من التفاؤل بانتفاضة يمكن أن تحققها هذه الفورة السياحية بوجه خمول شهدته المدينة في الفترة الماضية، وخلّف إنطباعات كثيرة بأنها لم تعد تصلح إلا كمدينة للمتقاعدين.
وهكذا لم يعد بولفار المدينة، الذي لطالما اعتبره الزحليون "مولهم" المكشوف في الهواء الطلق، محتكرا من محلات "النوفوتيه" و"الأحذية". بل اخترقتها المطاعم والمقاهي بأفكار مبتكرة، ملأتها الوجوه الشابة، سواء من ناحية العاملين فيها أو من ناحية زبائنها، في وقت لا تزال استثمارات إضافية تتطلع لتلبية متطلبات سائر الفئات الأخرى.مبادرات شجاعةهذه الطاقة التي بدأت أرضيتها تكتسب صلابة أكبر في المدينة، جذبت لأول مرة منذ سنوات طويلة، أحد فروع المطاعم التي كان يقصدها الزحليون في أيام رخائهم في بيروت. وبدا شباب المدينة خصوصاً معجبون بأنفسهم لإحتضان فرع من فروع الـSWISS BUTTER، مع أن الكثيرين مقتنعون بأنهم غير قادرين على تكبّد كلفة طبقه بظل ظروفهم الحالية.
وقبل أيام كان الحديث في المدينة أيضاً عن شراكة زحلية محلية، سمحت بمبادرة تتطلب شجاعة للإقدام على خطوة استثمارية مشابهة في ظل الظرف القائم، فوُلد الـMONKEY BITES. وقد تناول البعض افتتاح هذا المطعم بوسط بولفار زحلة كتجربة تشيع الأمل، وتخرق الصمت الذي تغرق فيه زحلة باكراً في كل مساء.
في وقت ينتظر البعض أيضاً حجم التفاعل مع الاستثمار الأكبر الذي وضع حتى الآن في هذا القطاع، من خلال تحويل مبنى تراثي بأكمله إلى مطعم باسم "مرسال" متخصص بالسفرة اللبنانية LEBANESE FINE DINING والذي قد يكون الأول في البقاع.
القالب الذي سينطلق من خلاله "مرسال" يخبر عن الفئة المستهدفة من خلاله. لكن بالنسبة للزحليين فإن أهميته تكمن أنه يشكل نموذجاً يشجع على استثمارات مشابهة في المباني التراثية، لإعادة إحياء ما أهمل منها منذ سنوات طويلة. خصوصاً أن هذه المباني التراثية تختزن حجم الدور الذي لعبه الإغتراب الزحلي تحديداً في إعلاء المعالم والصروح الأولى التي نشأت في هذه المدينة الحديثة الولادة. فالمطعم المنتظر المذكور، يتوسط ما يعرف بشارع "البرازيل" في زحلة، وهو شارع سمي كذلك عرفاناً بالجميل من قبل أهالي المدينة المقيمين لأقرانهم المغتربين، ولما لهم من دور في تأمين صمودهم بأصعب الظروف، وفي وضع أسس البناء الأولى لمدينتهم بما يتناسب مع طموحاتهم. هذا في وقت يبدو أن دور المغتربين لا يزال قائماً منذ بدأت هجرة اللبنانيين في مطلع القرن العشرين وحتى اليوم، حيث لا يزال الفضل لهذا الاغتراب في صمود جزء كبير من الزحليين كما اللبنانيين.STREET FOODوالمبادرات الثلاثة المذكورة وإن كانت الأحدث، ولكنها ليست الوحيدة، فالسبحة ستكر في الأسابيع المقبلة على ما يبدو لاستضافة فرع لواحد على الأقل من السلاسل المطعمية المعروفة، فيما طموحات الشباب بدأت تُنبت في المدينة مشاريع متنوعة، أضافت حيوية لأماكن تواجدها، بدءًا من مرتفعات زحلة في المنطقة المعروفة بوادي العرائش، وحتى أنحائها المتمددة نحو ما يعرف بمنطقة الستارغيت.
ويتعلق أصحاب هذه المبادرات كما يقولون بتفاؤل اللبنانيين وإيمانهم الدائم بقدرتهم على الخروج من الأزمات. ويجد هؤلاء في زحلة فرصاً عديدة تشبه تلك الموجودة في مناطق أخرى، مع إمكانية الاستفادة من اليد العاملة الأقل كلفة، ومن أجرة المباني التي تبقى أدنى في مناطق الأطراف مما هي عليه في العاصمة. وبالتالي، يعتبرون أنه آن الأوان لتحقيق هذه القفزة في الخدمة المطعمية التي ستفيد منطقة البقاع عموماً.
ولكن إذا كان "رأس المال" ذكياً كما يقال، فإن البيروقراطية "غبيّة" بلا أدنى شك. ففي مقابل الليونة التي يبحث عنها أصحاب الرساميل للإنطلاق بمشاريعهم التي تخلق فرص العمل للشباب خصوصاً، وتسمح بدوران العجلة الاقتصادية، لا تزال هذه البيروقراطية تؤخر حتى الآن الرؤية الموضوعة من قبل بلدية زحلة للانطلاق بالخطوات الأولى في مشروعها "المزمن" لتوسعة المنطقة السياحية، حتى بعد أن استبدلت طموحاتها الكبيرة، بمشروع أولي يتناسب مع الإمكانيات المالية التي ابتلعها تدهور قيمة العملة الوطنية، ويسمح باستثمارات صغيرة في بيوت جاهزة "كيوسك" تقدم الـSTREET FOOD وغيرها من الخدمات السياحية.
بعد عقد سلسلة جلسات لفض عروض المتقدمين في المزايدات التي جرت لتلزيم هذه "الكيوسكات" بناء لقانون الشراء العام، فإن الفائزين ينتظرون حالياً قرار ديوان المحاسبة الأخير في الموافقة على "صفقاتهم" التي لا يتجاوز حجم أكبرها 120 مليون ليرة. في وقت يسمح بعض الوزراء في الحكومة لأنفسهم بالاندفاع نحو تلزيمات وصفقات ربما تصل قيمتها إلى مئات ملايين الدولار، كمثل إقامة محطة نهائية ثانية في مطار رفيق الحريري الدولي، من دون العودة إلى أي من الهيئات الرقابية. ويكاد هؤلاء ينجحون بتمرير سمسراتهم، لولا فضحها أمام رأي عام لا يزال جزء منه على الأقل، ينزع لمعاقبة هذه الطبقة التي تسببت بإفقاره، ويتحداها بمبادراته التي لا تزال تسمح بصمود اللبنانيين حالياً، وتزيد من تعلق المغتربين خصوصاً به، ومن إصرارهم على الإنفاق المستمر باقتصاده.