افتتحت مهرجانات بعلبك الدولية لهذا العام مساء السبت أول تموز. أول ما نلاحظه في المدينة، توازياً مع الافتتاح، هي زحمة السير خلال ساعات بعد الظهر التي تسبق الحفل. زحمة لا طائل منها، ولا تفيد في شيء، إذا ما فُسّرت على أساس كونها إشارة إلى ازدهار الحركة التجارية في أسواق المدينة. الحركة بطيئة كما عهدناها منذ فترة ليست قصيرة، وأسبابها معروفة ولا ضرورة لذكرها.
كل ما في الأمر أن الطريق المحاذي للهياكل، الذي يصلح مخرجاً من سوق المدينة، يُقفل في هذه المناسبة، وتضيق الطريق الوحيدة المؤدية إلى الأسواق بأعداد السيارات الخاصة، وسيارات السرفيس الكثيرة، وحافلات الـ"توك توك" الأكثر منها. على أن لا شيء يوحي بأن حفلاً سيقام مساءً على بعد أمتار من الوسط التجاري. الإنفصال القائم بين المدينة والمهرجان عمره سنوات ليست قليلة. الجيل القديم، الذي شهد حفلات مبهرة "يقف لها شعر الرأس" مضت على قيامها عقود، وذلك قبل الحرب الأهلية، صارت من الماضي، ولم يعد هناك شيء "يملّي عينو"، قياساً إلى المستوى الذي حفظته ذاكرته. أما الجيل الجديد في المدينة، فإن وسائل التسلية (إذا ما اعتبرنا أن المهرجانات وسيلة للتسلية، وليس مناسبة لتطوير الذائقة السمعية والبصرية)، نقول إن الوسائل التي يفضلّها لا تتعدّى الأرغيلة والهاتف الخليوي، وهذان الشيئان يجتمعان معاً في ثنائي متّحد وشديد الإرتباط. وكي نكون منصفين في هذه المسألة، لا بدّ أن نشير إلى أن الرغبة في حضور المهرجانات، في حال حضورها لدى أفراد هذا الجيل، سوف تصطدم بأسعار بطاقات الدخول التي لا تتناسب مع إمكاناته المادية.
هذا الأمر، المتعلّق بالجيل الشاب ورغباته، لحظنا مفاعيله في أحد المقاهي الواقعة في الهواء الطلق، قرب المنطقة الأثرية. على طاولة من طاولات المقهى جلست عدة فتيات لا تتعدّى كل منهن ال15 سنة، وكنّ يتناوبن على أرغيلة واحدة، ربما لعدم قدرتهن على طلب أرغيلة لكل منهن. في المقهى المجاور جمهور غفير، جلّه من الشباب والمراهقين، ودخان الأراغيل يغلّف المكان. من الواضح أن هذا الحضور الغفير تسبب به الحفل القريب، الذي لا يفصل بين مكانه والمقهى سوى طريق مرصوف بحجارة سوداء، وجدار لم يكن قائماً في الأساس، حين كانت المعابد مشرّعة على باقي المدينة، قبل حوالي سبعة قرون. ربما شاء الجمهور الشاب أن يعيش اللحظة عن بعد، على أطراف الجو العام للمهرجان، من دون أن يكون ضمنه، وأن يكون أكثر حريّة في تصرّفاته وسلوكياته، بدلاً من الجلوس على مقعد ليشاهد حفلاً لا هيصة فيه، بل يحضره جمهور يتنفس بالكاد حفاظاً على هدوء نوعية العرض وقدسيته.
فالحفل الأول هو عبارة عن عرض راقص للإيطالي روبرتو بيللي والأصدقاء، كما جاءت التسمية. عرض باليه "ناعم"، على أنغام موسيقى كلاسيكية. المقطع، أو المقطعين، الذين شاهدناهما شارك فيهما راقص (ة) واحد (ة) أو ثنائي، ضمن "لغة" الباليه، البعيدة من الرقص الحديث. لا ندري إن كان فاتنا رقصات أخرى لاحقة يشارك فيها راقصون عديدون. ثمة انطباع يحضر من خلال متابعة ما يحدث على المسرح: الحجم "الهائل" لما سَلم من المعابد بعد الزلازل المدمرة، وأعيد بناء بعضه بفضل جهود المرممين الأجانب، إلى جانب الراقصين المتنقلين بخفة على المسرح، وكأنهم أشرعة مراكب صغيرة تبحر في محيط. هذا التناقض الذي يبدو وكأن من شأنه إضاعة الكائنات الصغيرة، على خلفية الأحجام التي تكبرها أضعافاً مضاعفة، وخصوصاً لمن يجلس في الصفوف الخلفية، لا ينعكس سلباً على العرض، كما نعتقد. يتركز الإنتباه على الحلبة كعدسة مكبّرة لا تشاهد سوى الحدث، وينتفي دور الديكور الخلفي الضخم، إلاّ حين يغفل المشاهد للحظة ما يحث وينقل بصره إلى المحيط المضاء بالأحمر تارة، وبأضواء باردة تارة أخرى. هذا الجو "الأسطوري" يعتبر من مميزات مهرجانات بعلبك الفريدة، والمختلفة عن سواها، وهذا المعطى البصري قلّما نجد له شبيهاً في مكان آخر.
في سابقات الأيام احتل هذا المسرح ذاته، عند أقدام الدرج المؤدي إلى هيكل باخوس، فريق البولشوي، ليقدم "بحيرة البجع". عرض لن ينساه من شاهده حينذاك، كما ذكرنا سلفاً. وعلى المسرح نفسه، أيضاً، قدم موريس بيجار "مجنون إلساً" للويس أراغون، في حضور الشاعر – الكاتب الشهير. حفلات صارت جزءاً من ذلك الزمن الغابر الذي لا ندري إن كان ستتكرر حوادثه، او ما يشبهها، في يوم من الأيام. لا ضرورة، هنا، للمقارنة غير المفيدة، ولا ملامة على منظمي المهرجانات في الوقت الحالي. يفعل هؤلاء ما في وسعهم لبث بعض الفرح في نفوس جماهير أدمنت الحزن، من دون أن تحقق اللجنة المنظمة مكاسب مادية تذكر. هذا، وقد إتبع ملحم زين، الذي سيحيي حفلة مساء 14 تموز، هذا النهج في التخلي عن الكسب المادي الشخصي، إذ سيخصص ريع تلك الأمسية لبلدية بعلبك، وسيكون الحضور في غالبيته من سكان المدينة.