خطفَ تكريس المصالحة السورية العربية في جدّة الأنظار في مشاهد مكثفة بالمعاني ومتتالية. من الإستقبال الحار لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للرئيس السوري بشار الأسد وترحيبه بعودة سوريا، وإنْ من التصريحات التي تلت لقاءات الأسد برؤساء عرب، وصولاً إلى الكلمة المحورية للأسد بعد ١١ عشر عاماً على إقصاء دمشق من الجامعة، والتي صوب فيها بوصلة الجهود العربية نحو التدخل الخارجي ومعالجة المشاكل الراهنة والإنتقال إلى مرحلة التنمية والسلام، رافضاً فكرة العودة إلى "الحضن" العربي على اعتبار أن سوريا قلب العروبة. وقد لفتت إشارته إلى التدخل "العثماني" بإطارٍ "أخواني"، في رسالة واضحة لتأكيد العلاقات الثنائية الجديدة مع الرياض بما تمثله عربياً وإسلامياً.
ومن روما، كان رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وكعادته في المحافل العربية والدولية، يقدّم لوحة شاملة واستراتيجية وجودية، وهذه المرة في باب مقاربة الوضع المسيحي اللبناني والمشرقي من مجلس النواب الإيطالي، ورابطاً بعمق بين الوجود والدور. وقد فنّد العوامل السياسية والتحولات الديموغرافية والتلاعب الغربي بمجتمعات المنطقة العربية، الماضي والحاضر ليستشرف الغد بأسئلته القلقِة، لكن ليس المُحبَطة.
القراءة الشاملة لباسيل شملت الوضع الدولي والتحولات القيمية للحداثة المفرطة في الغرب، مع تداعياتها السلبية على الثقافة والأخلاق. وقد وضع باسيل الغرب أمام مسؤولياته، رابطاً بين تركيبته والتركيبة اللبنانية، وخاصة في ظل تشجيع النازحين السوريين على البقاء في لبنان، وجدّد وظيفة مسيحيي المشرق في بناء مجتمعات متنوعة حضارية، ومعاكسة للمثال الإسرائيلي في الأحادية والتفتيت وقهر الشعوب، مع تأكيد مسؤولية إسرائيل في ما حصل من هندسات للديموغرافيا، والإنتماء العميق للمسيحيين إلى محيطهم المشرقي. ومن هذا الباب، رسم باسيل الأسئلة اللبنانية حول مصير الكيان في ظل التلاعب الديموغرافي وموجات اللجوء والنزوح التي صنعتْ مجتمعات خصبة وجديدة في لبنان، وإزاء ديموغرافيا مسيحية، ولبنانية، متراجعة.
في هذا الوقت، تحولّت قضية الملاحقة الدولية لرياض سلامة، خاصة بعد تسلم السلطات اللبنانية مذكرة الإنتربول بحقه، إلى "عبوةٍ" متفجرة يتقاذفها أركانُ المنظومة السياسية - المصرفية، في الوقت الذي لوح فيه سلامة ضمناً في مقابلته التلفزيونية أمس بابتزاز السلطة التي كان ركناً رئيسياً منها وأداتها المالية منذ العام ١٩٩٢.
وتأمل حكومة ميقاتي في أن يفكك سلامة "عبوته" في شكل لا تؤذي أحداً من المنظومة، بالفضائح والإرتكابات، والإبتعاد عن "وجع الرأس" بإقالته، ما ينذر بالتالي بمواجهة عبر سياسة التهديد بتفجير هذه "العبوة" المختزنة أسراراً كثيرة.
والأكيد، أن المسار القضائي الأوروبي والفرنسي، لن يوقفه صراخ جوقة سلامة، السياسية والإعلامية، وحتى القضائية...