في الذكرى المئويّة لولادة عاصي حنّا الرحبانيّ (١٩٢٣/٥/٤)
لم يخفَ على المهتمّين بإرث الأخوين رحبانيّ الشعريّ تأثّرهما بنشيد الأناشيد في أغنية فيروز «أنا لحبيبي وحبيبي إلي». فهذة الأغنية تستعيد حرفيّاً بيتاً من أبيات النشيد الشعريّة «أنا لحبيبي وحبيبي لي، الراعي بين السوسن» (٣/٦)، وذلك بعدما كانت الفكرة ذاتها وردت في مطلع النشيد مع تبديل في الترتيب: «حبيبي لي وأنا له، الراعي بين السوسن» (١٦/٢). غير أنّ الأغنية الفيروزيّة الجميلة لا تكتفي باستلهام النشيد في مطلعها، بل تعرّج عليه ثانيةً في أوّل كوبليهاتها، وذلك حين تنشد فيروز: «حبيبي ندهلي/ قلّي الشتي راح/ رجعت اليمامة/زهّر التفّاح». أمّا نصّ النشيد، فهو: «أجاب حبيبي وقال لي: قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي، لأنّ الشتاء قد مضى، والمطر مرّ وزال، الزهور ظهرت في الأرض، بلغ أوان القصب، وصوت اليمامة سُمع في أرضنا» (١٠/٢-١٢).
لعلّ نشيد الأناشيد هو من أكثر كتب العهد القديم إثارةً للجدل بسبب طابعه الإيروتيكيّ. هو منسوب، كعدد من كتب التوراة العبريّة الأخرى، إلى الملك سليمان. لكنّنا لا نعرف هويّة مؤلّفه الحقيقيّة. ويصعب القول ما إذا كان هناك مؤلّف واحد يختبئ وراء مقاطعه الشعريّة. فهذا الكتاب القصير، كما يرى معظم الدارسين، يجمع بين دفّتيه عدداً من أناشيد العرس ذات الطابع العشقيّ. وحين أعاد اليهود تنظيم كيانهم الدينيّ في أواخر القرن الميلاديّ الأوّل في مجمع جمنيا محدّدين لائحة كتبهم القانونيّة، دار جدال على قانونيّة كتاب نشيد الأناشيد انتهى بقبوله جزءاً من التوراة. ولعلّه اعتُبر تصويراً رمزيّاً لعلاقة الله بشعبه. وقد سار المفسّرون المسيحيّون في ركاب هذه النظريّة، فأوّلوا الكتاب رمزيّاً بوصفه توصيفاً استعاريّاً لعلاقة يسوع بالكنيسة، أو لعلاقة الحبّ بين الله والنفس البشريّة.
ما لم يلتفت إليه كُثر هو أنّ تأثير نشيد الأناشيد في شعر الأخوين رحبانيّ لا ينحصر في أغنية «أنا لحبيبي وحبيبي إلي». فالأخوان استعادا صوراً ومقاطع من نشيد الحبّ العظيم في غير نصّ شعريّ متعاملَين معه في صفته منطلقاً لتناصًّ خلّاق. نقرأ، مثلاً، في النشيد (٥/١-٦): «أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار كشُقق سليمان، لا تنظرن إليّ لكوني سوداء لأنّ الشمس قد لوّحتني». فكرة السواد بوصفه يشوّه الجمال استعادها الأخوان في «ليليّي بترجع يا ليل»، التي كتبا كلماتها ولحّنها فيلمون وهبي. هناك تنشد فيروز في الكوبليه: «أنا مش سودا بس الليل/ سوّدني بجناحو». فكرة السواد التي تحيل على غياب الجمال أو تشوّهه ليست غريبةً عن النصوص الشعريّة في الشرق القديم ولا عن المرويّات الشعبيّة في بلادنا، وذلك على الرغم من أنّ كثيراً من هذه المرويّات يتغزّل أيضاً بالاسمرار والبشرة السمراء. لكنّ السواد في نشيد الأناشيد لا يتأتّى من لون البشرة الطبيعيّ، بل من أثر الشمس فيها. وهذا بالذات ما نعثر عليه في مقطع فيروزيّ آخر من رائعة الأخوين «جسر القمر» (١٩٦٢): «وانطرتك يا حبيبي/ ورح يخلص الهوى/ وما اجتمعنا سوا/ ولا شفتك يا حبيبي/ لوّحتني الشمس/ والهوا قصّفني/ يا خجلتي منّك/ تجي وما تعرفني».
لقد ترك الفصل الأوّل من نشيد الأناشيد بصماته على غير نصّ شعريّ رحبانيّ. ثمّة، في مسرحيّة لولو (١٩٧٤)، أغنية شبه منسيّة بعنوان «يا بيّاعة» أنشدتها هدى نسمع في أوّل كوبليه منها: «أنا أهلي حطّوني/ناطورة الجناين/ قالولي ووصّوني/ تأحرس الجناين/ ما تاري عينيّي/ غفيو غفيو شويّي/ إجو الحراميّي/ وسرقو البساتين». هذا النصّ الشعريّ البديع يبني بوضوح على مقطع من الفصل الأوّل من النشيد العظيم: «بنو أمّي غضبوا عليّ، جعلوني ناطورة الكروم، أما كرمي فلم أنطره» (٦/١). لئن لا يذكر النشيد صراحةً سبب التلهّي عن حراسة الكرم، إلّا أنّ السياق يوحي بأنّ هذا السبب هو شدّة الحبّ. في نصّ الأخوين رحبانيّ، إغفاءة الأنا الشعريّة هي السبب، ما جعل الكرم عرضةً للنهب. لكنّ مسار الأغنية العامّ يدلّ على ارتباط النوم بالحبّ. فكرة سرقة الكرم لا ترد صراحةً في نصّ نشيد الأناشيد، لكنّها ربّما تكون حاضرةً على نحو مضمر، إذ هي وحدها تفسّر غضب الإخوة أو الأهل: «بنو أمّي غضبوا عليّ». نحن، إذاً، أمام تناصًّ يستلهم ولا ينقل حرفيّاً. وهو، على الأغلب، ينطوي على تأويل رحبانيّ لنصّ النشيد، إذ لا يُستبعد أن يكون الأخوان قد اعتبرا أنّ نهب الكرم هو سبب غضب الأهل، واستخدما هذه الفكرة في مقطعهما الشعريّ.
في مسرحيّة «الليل والقنديل» (١٩٦٣) تنشد فيروز في الكوبليه الثاني من أغنيتها «حوّل يا ليل»: «مينيّي الطالعة/ من هاك الحيّ/ انكنّا مش قاشعة/ ضوّيلا شوي»، مستعيدةً من نشيد الأناشيد: «من هذه الطالعة من البرّيّة كأعمدة من دخان معطّرة بالمرّ واللبان» (٦/٣). طبعاً، التقاطع اللفظيّ هنا لا يحيل على الفكرة الشعريّة بقدر ما يأخذنا إلى اللفتة الأسلوبيّة الجميلة المرتبطة باستهلال المقطع الشعريّ بسؤال. لكنّ هذه الظاهرة بالذات تعكس عمق تأثّر الأخوين بالنشيد، إذ هو لا يقف عند حدود التناصّ في المعنى، بل يطال أيضاً الجانب الأسلوبيّ، ما يدلّ على أنّ الأخوين ألمّا بالنشيد وقرآه بكثافة.
هل تأثّر الأخوان بمقاطع أخرى من الكتاب المقدّس؟ يكتب المطران جورج خضر في تأبينه لعاصي الرحبانيّ عن بعض قصائد الأخوين: «عبارات وكأنّها تأتيك من المزامير أو من نشيد الأنشاد». الأمر متروك، إذاً، لمزيد من البحث، ومزيد من الغوص في هذا التراث المترامي. الأكيد أنّ عاصي كان يجد في أعمال الأخوين لمسةً ميتافيزيقيّةً هي إيّاها مساحة التقاطع بين الشعر والدين. فكلاهما، على طريقته، مشروع للبحث عن المعنى.