"لو كنت أعرف المكان الذي تأتي منه القصائد، لذهبتُ إليه" (ميكال لونغلاي).
كانت إيمان حمصي، عازفة القانون، حتّى في أثناء مرضها، قادرةً على تحويل الأمكنة إلى فسحة منسوجة بالحبّ. هذا الحبّ كان ينبثق من حضورها أوّلاً. فهي، على عصبيّتها، التي تتحوّل إلى جنون عذب كلّما جلست إلى القانون، رسولة اللطف في عائلتها وبين أصحابها. في جلساتها معنا، كانت تغرف من هذا اللطف وتسكب علينا لطفاً. وهي، كما كانت تتطرّف في القسوة على تلاميذها، كونها تريدهم كباراً في المعرفة والذوق، لا مجرّد عازفين عاديّين يتسكّعون على أرصفة المعتاد من الفنّ، كانت تأبى ألّا يكون الحبّ في بيتها متطرّفاً، لا يهادن في سخائه.وكان الحبّ ينبثق، ثانياً، من هذا الالتماع الموسيقيّ الذي يجتاحها كلّما احتضنت آلتها السمراء. فالموسيقى صنو الحبّ فينا، حتّى ولو كان الألم طريقها إلينا. كان القانون يحوّل إيمان إلى عاشقة. وكنّا نصير معها عشّاقاً نتتلمذ على الحبّ، ونتعلّم أبجديّة الحبّ مرّةً تلو مرّة، كأنّ العمر هو سنو مراهقتنا التي لم تنتهِ بعد، ولا نريد لها أن تنتهي. فندرك، بكلمات محمود درويش، أنّ "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة". فالجمال يستحقّ أن نعيش من أجله على الرغم من كثافة الموت. والحبّ يستحقّ أن نعيش من أجله على الرغم من تفاهة الأوقات التي تمضي بلا حبّ. هكذا عاشت إيمان، وهكذا ماتت، وهكذا أرادت لنا أن نحيا بعد موتها، إلى أن نلتقي ثانيةً في عالم تبتلعنا فيه موسيقى من نوع آخر.إنّ بعض إبداعات عازفة القانون ارتبط بصراعها المرير مع المرض طوال خمس سنوات. هذا نستدلّ عليه من مقطوعات كتبتها وهي تعارك السرطان، مقطوعات تشهد كيف يمكن للجمال أن يتفتّق من الوجع. لكنّ متتبّع أعمال إيمان، عن كثب، يدرك أيضاً أنّ كثيراً منها يتّصل بسيل الحبّ في حياتها، باللحظات الحبلى بالصداقة السمحاء، بالفرح العميم الذي تملّكها حين رُزقت ببكرها "سارة"، ثمّ بصغيرتها "تاليا"، حتّى إنّ بعض مقطوعاتها الموسيقيّة جاء يحمل هذه الأسماء عنواناً.هذا الحبّ، وما يخالطه من فرح، هو ما يورّطنا في هذه الدنيا، فيعزّ علينا فراقها، لأنّنا نتوسّل مزيداً من الدهشة، مزيداً من الانبهار، ومزيداً من النور. لكنّ الحبّ ليس من هذه الأرض فحسب، بل هو مرادف "لاختلاط الأرض فينا بالسماء". ولعلّه أيضاّ بوصلتنا إلى ذلك المكان الذي تأتي منه القصائد، كما كتب، ذات يوم، الشاعر الإيرلنديّ ميكال لونغلاي.يقيني أنّ إيمان قد ذهبت إلى مثل هذا المكان…