شهدت واشنطن على مدى أربعة أشهر، معرضاً استثنائياً خصّص لفيتوري كارباتشيو، "المعلّم القاصّ" الذي برز في البندقية في عهد النهضة الأوّل. انتقل هذا المعرض، الشهر الماضي، إلى البندقية، وحظي بتغطية إعلامية واسعة عند افتتاحه. أنجز هذا المصوّر الفذّ سلسلة من اللوحات الكبيرة في المرحلة الممتدة من العقد الأخير من القرن الخامس عشر، إلى مطلع العقد الثالث من القرن السادس عشر. وتميّزت هذه الأعمال بطابعها القصصي بالدرجة الأولى. من جهة أخرى، حملت مجموعة كبيرة من هذه اللوحات طابعاً "عثمانياً" ظهر في العديد من عناصرها التصويرية، وشهد هذا الطابع لظهور الملامح الأولى للمدرسة الاستشراقية.في "المختصر في أخبار البشر"، تحدّث أبو الفداء عن "الأمم التي دخلت في دين النصارى"، وأحصى منها الروم، الكرج، الجركس، البلغار، الأرمن، البرجان، والإفرنج. بعد الإفرنج، ذكر المؤرخ والجغرافي الأيوبي الجنوية، أي أهل جنوة، المدينة العظيمة الواقعة "غربي القسطنطينية على بحر الروم"، والبنادقة، "وهم أيضاً طائفة مشهورة، ومدينتهم تسمى البندقية، وهي على خليج يخرج من بحر الروم يمتد نحو سبعمئة ميل في جهة الشمال والغرب، وهي قريبة من جنوة في البر". شكلت المدن الواقعة على جانبي الخليج البندقي عالماً وسيطاً بين الشرق والغرب، ولقد برع أهل هذا الخليج في استثمار موقعهم الجغرافي على مدى قرون من الزمن، وعاشوا عصرهم الذهبي الأول في زمن بداية تصدّع الإمبراطورية البيزنطية والدولة العباسية.رغم الحروب المستديمة بين الصليبيين والسلالات الإسلامية الحاكمة في الشرق الأوسط، نجح البنادقة الكاثوليك في إقامة أوثق الروابط التجارية مع "العدو" التركي المسلم، وعقدوا الاتفاقات مع المماليك ومن بعدهم مع العثمانيين، في زمن كانت أوروبا تعتمد على خليجهم في تموين سفن فرسانها، كما في تنظيم رحلات الحج إلى الأراضي المقدسة. وقد سمحت هذه العلاقة البراغماتية بتنمية تبادل ثقافي بين الشرق والغرب تجلّى في العديد من الصناعات الحرفية واللوحات الفنية التي وُلدت في البندقية بين بداية القرن الرابع عشر ونهاية القرن السادس عشر. في هذه الحقبة، شهدت الحركة التشكيلية ظهور طابع جديد وٌصف لاحقاً بـ"التتريكي"، وتمثّل هذا الطابع بحضور عناصر عثمانية عديدة في مجموعة من الزيتيات التي خرجت من محترفات كبار معلّمي البندقية. ويجدر القول هنا أن هذه العناصر ظلّت "خارجية"، أي أنها لم تمس ناموس الكلاسيكية الذي كرّسه عصر النهضة.في هذا الميدان، برز جانتيلي بيلليني وبرتولوميو بيللانو كمؤسسَين للمدرسة الإستشراقية في الرسم الأوروبي، وقد سافر كلاهما إلى اسطنبول كسفراء في زمن السلطان محمد الثاني. وتجدر الإشارة إلى أن بيلليني أقام سنتين في عاصمة الخلافة، وصوّر السلطان في زيتية تحمل تاريخ تشرين الثاني 1480، وتُعتبر هذه الزيتية أول صورة تجسّد شخصيّة مسلمة في الغرب. من ناحية أخرى، ظهر هذا الطابع الاستشراقي في نتاج فنانين من البندقية لم يزوروا أي بقعة من الشرق خلال حياتهم، وأبرز هؤلاء فيتّوري كارباشيو، المعلّم الذي برع في تصوير اللوحات "القصصية" التي كُلّف بإنجازها لتزيّن بعض المؤسسات الكاثوليكية المدرسية.مظاهر التتريكبين 1490 و1495، أنجز كارباشيو سلسلة من تسع لوحات، استعاد فيها قصة القديسة أوسولا في صياغة انشائية مبتكرة. بحسب التقليد، تجري أحداث هذه القصة في القرن الرابع، وبطلتها أورسولا، ابنة ملك بريطانية (شمال غرب فرنسا) التي أحبّت المسيح من كل قلبها، ولما وصلت إلى سن الشباب، جاءت إلى أبيها بعثة إنكليزية، ونقلت إليه رغبة ابن ملكها الوثني في الزواج من ابنته المسيحية. اشترطت أورسولا دخول الأمير في المسيحية وإتمام هذا الزواج بعد ثلاث سنوات، وسافرت إلى روما برفقة حاشية مؤلفة من عشر آلاف عذراء، وحظيت بمباركة البابا، وإثر هذا اللقاء، أبصرت في نومها ملاكاً يحمل لها سعفة، فأدركت أنها ستنال اكليل الشهادة، وأبحرت بعدها مع البابا في رحلة إلى شمال أوروبا، وحطت في كولونيا حين اضطر قادة السفينة إلى التوقّف في هذه الناحية لأسباب طارئة، وكانت كولونيا تحت حصار قبائل الهون بقيادة أتيلا الذي أطلق عليه المسيحيون لقب "بلاء الله"، واستشهدت أورسولا على ايدي هؤلاء، كما استشهد معها البابا والعذارى اللواتي رافقنها. يظهر الأثر "التركي" في اللوحة التي تصوّر إبحار أورسولا مع حاشيتها، حيث تظهر عدة سجادات شرقية من الصورة. كذلك، يظهر هذا الأثر في اللوحة التي تصور توقف السفينة في ميناء كولونيا، حيث يظهر جنود الهون الذين يحاصرون المدينة بالزي العسكري العثماني.في مطلع القرن السادس عشر، أنجز كارباشيو سلسلة من ثلاث لوحات تصوّر قصة قضاء القديس جاورجيوس على التنين. تقول هذه الرواية إنّ القدّيس مرّ بمدينة ليبية يحكمها ملك كافر، وكان بجوار هذه المدينة بحيرة عظيمة يعيش فيها تنين متوحّش. اقترح الملك تقديم طفلٍ من أطفال أهل المدينة قرباناً في كلّ يوم على أن يتمّ اختيار الضحيّة بالقرعة. وافقت الرعيّة، وبات التنين يلتهم كلّ يوم طفلا من الأطفال، إلى أن وقعت القرعة على ابنة الملك. رضخ الحاكم رغم الألم الشديد، وبعث بالأميرة إلى الوحش بعدما ودّعها بحرارة، فمضت طائعة، والتقت في طريقها إلى البحيرة بجاورجيوس، فسألها عن حالها، وقرّر مواجهة التنين معها بعد أن تجحد بآلهتها وتدعو للإله الحق، وقضى على الوحش أمام أعين الملك ورعيّته، فتخلّوا عن آلهتهم، وأعلنوا إيمانهم بالثالوث الأقدس. في اللوحة التي تصور جاورجيوس وهو يجر التنين وسط المدينة الليبية، كما في اللوحة التي تصور القديس وهو يعمّد الملك والملكة بحسب الطقس الكاثوليكي، يظهر القادة والأعيان وعامة الشعب بأزياء عثمانية صرفة، وتعكس أناقة هذه الأزياء وجمالها المترف اعجاب البنادقة وانبهارهم بهذه الألبسة الشرقية في هذه الحقبة.في 1515، استعاد كارباشيو قصة مقتل عشرة آلاف جندي روماني صلباً في جبل أرارات خلال القرن الثاني، وفقاً لسيرة متأخرة وُلدت في القرون الوسطى. وبحسب هذه السيرة، استشهد هؤلاء الجنود بأمر من قائدهم الإمبراطور الذي مالأ ملوك الشرق "الكفار" لأسباب سياسية سلطوية. أنجز الرسام هذه اللوحة في زمن مالأ فيه الإمبراطور الروماني المقدس ماكسيمليان الأول السلطان العثماني سليم الأوّل لكي يسانده في الهجوم على البندقية، وفي إشارة إلى هذا التحالف، صوّر استشهاد الجنود المسيحيين على أيدي جنود معمّمين يتقدمهم امبراطور روماني وبعض القادة العثمانيين.في المرحلة الأخيرة من حياته، كُلّف كارباشيو بتصوير قصة القديس استفانوس، أول الشمامسة وأول شهداء المسيحية. بحسب رواية "أعمال الرسل" في الانجيل، اشتكى الهيلينيون المسيحيون في القدس من ان أراملهم كن يُهملن، فتمّ انتخاب سبعة رجال من ضمنهم إستفانوس ليقوموا بأمر الخدمة اليومية، وهؤلاء الرجال السبعة يعرفون بأول شمامسة في الكنيسة. كان استفانوس ممتلئاً من الإيمان والروح القدس، وكان ينادي بالرسالة بحكمة، فنقم عليه اليهود، واتهموه زوراً بالتجديف، وأخرجوه خارج المدينة، ورجموه. استعاد كارباشيو هذه السيرة بأسلوبه القصصي في سلسلة من أربع لوحات ظهرت فيها بقوة ملامح "التتريك". ظهر اليهود بالألبسة العثمانية الفاخرة في اللوحة المخصصة لمشهد رسامة استفانوس شماساً، كما في اللوحة التي تصوّر القديس وهو يلقي خطبته أمام خصومه، وتكرّرت هذه الصورة بشكل ملفت في اللوحة الأخيرة التي تصور استشهاد القديس رجماّ خارج أبواب القدس.في الخلاصة، تبرز عناصر "التتريك" في نتاج كارباشيو، كما في نتاج أعلام رسامي البندقية الذين ظهروا من بعده في القرن السادس عشر، وتتكرس هذه العناصر كتقليد في نتاج فناني القرن السابع عشر. تهب ريح الشرق على البندقية بقوة، من دون أن تخترق نسيجها التشكيلي. تكفي مقارنة المنمنمات العثمانية التي تمثل السلاطين بزيتيات البنادقة التي تصور رجال ذوي عمامات بيضاء، لتلمّس عمق المسافة التي تفصل بين الصور التي تلتزم التحوير والتجريد والتسطيح من جهة، والصور التي تلتزم مبادئ المحاكاة والتجسيم الواقعي من جهة أخرى.