معرض إيليو الشاغوري، المقام في "زيكو هاوس" (الصنائع –بيروت)، يتألف في معظمه من أعمال متوسطة وصغيرة الحجم، وقد اختار له الفنان عنوان "كلمة لم تُكتب". واللوحات المعروضة لم تتخذ كلها النهج نفسه من حيث خصائصها التقنية، إذ تتنوّع بين أعمال خطوطية ذات طابع غرافيكي، وأخرى ملوّنة، إضافة إلى بعض أعمال الحفر النافر، أو بالأحرى المجسّمة من خلال العجائن المختلفة.
يفيد الفنان أنه مارس نوعاً من العزلة الذاتية خلال المدّة الماضية، التي حلّ بها احتكاك ما بين الفنان ومشاعره، وعاد مراراً إلى خبرته الذاتية، وإلى تجاربه الماضية. والنافل أن مسألة العزلة، لم تقتصر على الفنان وحده، بل هي حالة عامة طغت على سلوك الكثيرين، لأسباب متنوّعة. الوضع العام للبلد، المثير للقرف والغثيان، في أقل تقدير، دفع بالكثيرين إلى الإنزواء، المعقود على شعور بالعجز في سعيهم إلى تغيير الوضع القائم، الذي تتدحرج موبقاته من دون حواجز أو موانع. ربما كانت للشاغوري أسبابه الذاتية التي لا نعرفها تماماً، لكن واقع العزلة فرض دوراً وازناً في تحديد مفاصل الحالة الذاتية وتشعبات تأثيراتها، وبالتالي في إنتاج الأعمال المعروضة في "زيكو هاوس".
عزلة
وإذ وجد الشاغوري في العزلة فرصة للتأمل، والسعي إلى تطوير ما يجول في رأسه من أفكار، فقد شاء العودة إلى الوسائل "البدائية" للتواصل واستكشاف الذات، وذلك عبر مجموعة من الرموز، التي انعكست فعلاً تجريدياً في ما يختص بالتعامل مع العمل الفني. والتجريد، كما نعلم، كان يسعى منذ ظهوره في عالم الفن، إلى تخطّي الصورة والتمثيل الصُوري، رافضاً المحاكاة والتقيّد بالمنظور أو الطبيعة، كما تبرز إحدى ميزاته في إمكانه تخطي حدود الثقافات والأزمنة، وذلك في حال لم يتضمّن إشارات محلية مباشرة إليها. فالعمل التجريدي، المعبّر عن تحرّر الفنان إزاء ضرورة تمثيل الأشياء كما هي في العالم الطبيعي، يسعى إلى اجتناب المحسوس كصورة، ليستخلص منه شيئاً هو بمثابة الحقيقة، أو المفهوم، أو الفكرة. وفي ما يتعلق بالشاغوري، يبدو أنه سار على المبدأ–المفهوم الذي تحدث عنه، ذات يوم، المؤرخ والناقد الألماني ويلهام فورنغر، حين قال: "إن التجريد هو الوسيلة الوحيدة للراحة وسط إلتباس صورة العالم وغموضها". ولا نرى هنا بُدّاً من طرح سؤال على أنفسنا: وهل هناك ما هو أكثر التباساً وغموضاً من الوضع الذي نعيشه في بلدنا؟
وليس خافياً على أحد مدى الحريّة التي يوفّرها التصوير اللاتمثيلي في قدرته على إبتكار الرموز، وانتهاج مبادىء إصطلاحية في الفن تنظم العلاقة القائمة بين الأشياء، وتعيد صياغتها وفقاً لإرادة ذاتية. لقد استخدم الشاغوري الخط في بعض الأعمال من أجل صوغ أشكال بعضها قريب من الهندسة، وبعضها الآخر بعيد منها، كما استعمل مواد مختلفة في معظم الأعمال، في ما يشبه لحظة اختبارية تقرّب العمل، افتراضياً، من الحالة النفسية. هذه الحالة، وكما هو معروف، لا تركن عادة إلى قالب واحد جامد، فهي تتبدّل بحسب المؤثر الخارجي، والعلاقة مع الآخر، والفعل اليومي، حتى مع حالة الطقس. ثمة سواد كثير في بعض الأعمال لدرجة أن بعضها يعتمد هذا اللون دون سواه، خصوصاً في حالة المادة العجينية، كما تلجأ أعمال أخرى إلى التنقل بين تدرّجات مزيج الأسود مع الأبيض، أي الرمادي، بما يمكن أن يوفره من طاقة، لا يمكن، من حيث المبدأ، إطلاق صفة اللون عليها، بقدر ما تشير إليه من تبدّل موضعي أو حالة ذهنية.
الصليب
ومن الملاحظ، أيضاً، أن شكل الصليب يحضر غير مرّة في الأعمال المعروضة، مختصراً ومموّهاً حيناً، أو بالغ الوضوح في حالات أخرى. هذا الحضور من شأنه أن يؤدي إلى تواردات ذهنية عديدة، لا نرى ضرورة لتأويل معانيها، كي لا نقع في ضلال مبين. حتى المربّع أو المستطيل أو الدائرة، المرسومة أو المجسّمة، التي نراها في الأعمال، كان الرسام كاندينسكي، في زمنه، قد وجد لكل منها دلالة أو رمزاً. وفي الحالات كلّها، لقد شاء الشاغوري، وعبر الرموز المنتشرة بكثرة على الورق أو القماش، أو من طريق الشكل المجسّم، أن يصنع لغة خاصة، أو ربما عالماً غامضاً غموض النفس البشرية، كي يقول كلمته التي لم تكن قد كُتبت بعد.(*) يستمر المعرض حتى 19 نيسان/ابريل الجاري.