"أفضِّلُ حياة قصيرة ومكثَّفة على حياة طويلة ورتيبة"، الجملة لموريس كرافت، وهو رجل فرنسي لديه ميل معيّن للاقتراب من البراكين المتفجّرة أكثر مما يشير إليه المنطق والحذر، شخص يجرؤ على عبور بحيرة مليئة بحمض الكبريتيك باستخدام زورق بخاري رخيص، وما زال يحلم ببناء قارب يمكّنه من الإبحار، حرفياً، في أنهار من الحمم البركانية. كان وزوجته كاتيا اثنين من أشهر علماء البراكين على هذا الكوكب، أمضيا عقوداً في السفر حول العالم لدراسة وتصوير الانفجارات البركانية أينما حدثت. الهدف؟ أولاً، معاينة الجمال والفتنة والروعة التي تنتجهما هذه الظواهر. وثانياً، إعلام الناس بطبيعة مثل هذه الانفجارات حتى يكونوا مستعدين عند حدوثها وتجنّب خسارة كبيرة في الأرواح. وثالثاً، ربما يكون أكثر تعقيداً، له علاقة بالجملة الواردة في البداية.قصّتهما المدهشة والمأسوية يسردها الفيلم الوثائقي "نار الحبّ" للأميركية سارة دوسا باعتبارها قصة حبّ بالأساس، واتفاق انتحار ضمني غير مكتوب. كاتيا كرافت (1942-1991)، التي كان اسمها الأخير في ذلك الوقت كونراد، وزوجها موريس كرافت (1946-1991)، التقيا للمرة الأولى في العام 1966. كيفية حدوث لقاءهما الأول لن نعرفها أبداً. تلعب المخرجة بالعديد من تنويعات أصول هذا اللقاء، تماماً كما يقدّم فيلمها مزيجاً من الحقائق الوثائقية والسرد الشعري واللعب البنائي. ومهما كان شكل اللقاء الأول، فإن شيئاً واحداً فقط واضحاً بعد ذلك: هنا التقى ثنائي أبدي، شغوف بالسبب نفسه، ومن الآن فصاعداً سيسيران في هذا الطريق معاً.إذاً، التقى موريس وكاتيا في الستينيات، ووقعا في الحب، وفتنا بالبراكين، في الوقت نفسه الذي خاب أملهما في حال العالم (زمن حرب فيتنام والثورات السياسية المجهضة)، فقررا تكريس حياتهما لاستكشاف تلك الظواهر. مهمّة تملك بعض أوجه التشابه مع مهمة جاك كوستو - قبعاتهما الحمراء وتصويرهما المستمر لأنفسهما يجعلان هذا التأثير واضحاً - ولكن في منطقة أخرى أكثر خطورة: عند سفح البراكين، يعرّضان حياتهما للخطر بشكل دائم، وفي الوقت ذاته يلتقطان أجلّ وأجمل الصور المعروفة لهذه الانفجارات.
وثائقي دوسا - وهو أحد فيلمين عُرضا للمرة الأولى في مهرجانات العام الماضي عن الثنائي (الآخر من إخراج فيرنر هيرتسوغ) - يتعلّق في المقام الأول بسرد قصة حياتهما، وإذا أردت، جانبها الرومانسي، لكن فضيلة الفيلم الكبرى ومكمن تأثيره العظيم كامن تحديداً في أرشيفهما البركاني المصّور. صورٌ وفيديوات جرى ترميمها (معظمها يبدو مصوّراً على شرائط 16 ملم)، تلتقط بكل الرعب المذهل العديد من البراكين النشطة في العالم، والتي، كما يوضّح الثنائي في العديد من المقابلات التي أجروها، مقسّمة إلى قسمين: الحمراء والرمادية.الأولى، الأجمل والأخفّ ضرراً، بأنهارها المميّزة من الحمم البركانية، هي الأكثر توقعاً ويمكن التحكُّم فيها. الأخرى، الرمادية، مدمّرة وساحقة، بسحاباتها السامة عالية السرعة التي تأخذ كل شيء في طريقها. "نار الحبّ" يُظهر ويحلّل ويشرح خصائصها، لكن، كما أسلفنا، تكمن الجاذبية الرئيسية للفيلم في المواد المصوّرة نفسها. وبالطبع، في محاولة فهم ما دفع كلاهما للوصول إلى شيء لم ينته بشكل جيد، كما نعرف منذ المشهد الأول، عند سفح بركان أونزين في اليابان. أو، ربما جاءت نهايتهما الماساوية تلك وفقاً لرغبة موريس التي كرّرها أكثر من مرة طوال الفيلم.مثل أي ثنائي، اختلف الزوجان في ما بينهما في بعض الأمور والخيارات. كان عالماً جيولوجياً، مخاطراً ومندفعاً ومبهوراً بروعة الأمر برمّته. أما هي فكانت عالمة جيوكيمياء أكثر اهتماماً بالتفاصيل وأكثر حذراً بشأن أشياء معيّنة. وستكون هذه الاختلافات أساسية لفهم، ليس فقط بعض اللحظات المفصلية في حياتهما، وإنما أيضاً كيف عملت على تحقيق التوازن في علاقتهما. إنجاز آخر مثير للاهتمام للفيلم هو أنه، على عكس أفلام أخرى عديدة تتنال موضوعات مشابهة، يركّز على المجال العلمي. غالباً ما يُقدَّم هذا النوع من الظواهر الطبيعية مرتبطاً بأسئلة روحية أو أسطورية، لكن الزوجين لم يغريهما أبداً دخول تلك التضاريس. كانا باحثين. ليس واقعيين بالضرورة، ولكن يظلّا باحثين بوصلتهما العلم والمنهج العلمي.يصاحب الفيلم من بدايته إلى نهايته تعليقٌ صوتي للسينمائية ميراندا جولي. وعلى الرغم من وجود جوانب ذكية وشاعرية لهذا التعليق الصوتي، فضلاً عن جمالية صوت جولي نفسه؛ إلا أن الحاجة إلى وجود شخص يتحدّث طوال الوقت تقريباً عبر الصور تكون مرهقة بعض الشيء، مثل بعض الاستعارات (غير الضرورية) المرئية المتحركة الأخرى. ما التقطه ووثّقه الزوجان كرافت من صورٍ وفيديوات، قوي وساحق وغامر ومذهل، لدرجة أنه في بعض الأحيان يبدو كل شيء آخر غير ضروري ونافل، بما يتجاوز الحاجة لوضع سياق لما نراه.على أي حال، القصة مثيرة ولافتة والصور مدهشة جداً لدرجة أن تلك المشكلات التي تميّز الأفلام الوثائقية الأميركية عادةً (التي تحتاج دائماً إلى التأكيد على الأشياء وشرحها وتفسيرها، حتى مع أكثر الأمور غموضاً) يمكن تحمّلها بشكل أكبر من المعتاد. ربما لم ينجح كاتيا وموريس كرافت في كشف أسرار أعماق الأرض، لكن في عقودهما الاستكشافية، استطاعا إدراك – ومشاركة هذه التجربة، عبر الصور، مع العالم بأسره - جمالها الآسر والمفجع. وقبل كل شيء، أن يعيشا حياتهما كما أرادا دائماً. حتى تلك النهاية الشاعرية والمأسوية على حد سواء.(*) رُشّح الفيلم لأوسكار أفضل فيلم وثائقي.